مقدمة
الإيصاء من الأمور التي لها أهمية بالغة في الشريعة الإسلامية، حيث يتيح للفرد تنظيم جزء من ثروته بعد وفاته لتحقيق مصالح معينة أو مساعدة فئات محتاجة. وتتنوع أحكام الإيصاء وتختلف آثارها على توزيع الميراث، مما يستدعي فهمًا دقيقًا لهذه الأحكام لضمان تطبيقها بشكل صحيح وعادل.
مفهوم الإيصاء
الإيصاء في اللغة هو العهد والتكليف، ويأتي من الفعلين “أوصى” و “وصّى”. أما في الاصطلاح الشرعي، فهو:
التصرف بالتبرع بجزء من المال أو منفعة معينة مع تعليق هذا التبرع على الوفاة. وبذلك، يكون الإيصاء تمليكًا من الموصي (صاحب المال) للموصى له (المستفيد) بعد وفاة الموصي.
وينقسم الإيصاء من حيث الشروط إلى نوعين:
- الإيصاء المطلق: وهو الإيصاء الذي لا يشتمل على أي شروط أو قيود، مثل أن يقول الموصي: “أوصيت لفلان بمبلغ كذا”.
- الإيصاء المقيد: وهو الإيصاء الذي يشتمل على شرط أو قيد يتعلق بالزمان أو المكان أو الحال، مثل أن يقول الموصي: “أوصيت لفلان بمبلغ كذا إن مت في مرضي هذا”.
كيف تؤثر الوصية على تقسيم التركة؟
تتحدد طبيعة تأثير الإيصاء على الميراث بناءً على مدى مشروعية الوصية ذاتها. فالوصية المشروعة تؤثر فعليًا على الميراث، بل وتُقدم على تقسيم التركة بين الورثة. أما الوصية غير المشروعة، فلا يعتد بها ولا يجوز تنفيذها، وبالتالي لا يكون لها أي تأثير على كيفية توزيع الميراث. وسنوضح كلا النوعين بشيء من التفصيل.
الوصايا المشروعة وأثرها
لكي يكون للإيصاء تأثير على الميراث، يجب أن يستوفي شروطًا معينة تجعله مشروعًا. وقد وضع الفقهاء جملة من الشروط التي تميز الإيصاء المشروع عن غير المشروع، وتجعله مقدمًا في التنفيذ على تقسيم الميراث. وتختلف هذه الشروط باختلاف الاعتبارات، ويمكن تلخيصها فيما يلي:
- الشروط المتعلقة بالموصي: وتشمل الأهلية (البلوغ أو التمييز)، والعقل، والحرية، والقصد، وألا يكون محجورًا عليه لسفه، وألا يكون مديونًا بدين يستغرق كامل ماله.
- الشروط المتعلقة بالموصى له: وتشمل صلاحية التملك، ووجود الموصى له حيًا وقت الإيصاء، وأن يكون معلومًا بالاسم أو بالصفة، وألا يكون قاتلًا للموصي (إلا في حالات استثنائية).
- الشروط المتعلقة بالموصى به: وتشمل أن يكون المال الموصى به مملوكًا للموصي، وأن يكون مباحًا، وأن يكون موجودًا وقت الوفاة لا قبلها (وإلا اعتبر هبة).
إذا تحققت هذه الشروط، يصبح الإيصاء نافذًا، ويتملك الموصى له المال الموصى به من لحظة وفاة الموصي. وإذا رفض الموصى له الإيصاء، يعود المال الموصى به إلى التركة ليتم توزيعه على الورثة.
الوصايا غير المشروعة
الإيصاء غير المشروع هو الذي يخالف شرطًا أو أكثر من الشروط المذكورة أعلاه. ويتخذ الإيصاء غير المشروع أشكالًا مختلفة، منها:
تجاوز الوصية لحد الثلث
السنة النبوية تشير إلى أن من يمتلك مالًا قليلًا، فالأفضل له أن يترك ماله لورثته لأنهم الأحق به من غيرهم. أما من يمتلك مالًا كثيرًا ولديه ورثة، فيُستحب له أن يوصي بخمس ماله أو ربعه، ويمكنه أن يوصي بالثلث.
أما إذا زادت الوصية عن الثلث، فلا تصح إلا بموافقة الورثة بعد وفاة الموصي.
ويستثنى من ذلك من ليس عليه دَين وليس له وارث، فله أن يوصي بكل ماله، وتصح وصيته دون الحاجة إلى إجازة من أحد.
أما من كان عليه دَين، فيُسدد دينه أولًا، وإذا استغرق الدين كل ماله، فلا يُعمل بالوصية.
الوصايا المخالفة لقواعد الميراث
إذا تعارض الإيصاء مع الأحكام الشرعية التي تنظم الميراث، فلا يصح ولا يجوز العمل به. وبالتالي، لا يكون له أي تأثير على تقسيم الميراث. مثال ذلك أن يوصي شخص بتقسيم الميراث بالتساوي بين الذكور والإناث، لأن ذلك يخالف أحكام الشريعة الإسلامية ويعتبر أكلًا لأموال الناس بالباطل.
الإيصاء للورثة
لا يجوز الإيصاء لأحد الورثة، لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث”.
إلا إذا أجاز الورثة الآخرون هذه الوصية بعد وفاة الموصي، فإنها تصح على سبيل الهبة لا الميراث.
الوصية الإلزامية وتأثيرها
الوصية الإلزامية هي وصية تم استحداثها في بعض قوانين الأحوال الشخصية في الدول الإسلامية لمعالجة وضع الأحفاد الأيتام للمتوفى، وقد أخذت حكم الوجوب، وتُقدم في التنفيذ على الوصايا الاختيارية. فإذا لم يوصِ الجد لأبناء ابنه المتوفى قبله أو معه، يقوم القاضي بتنفيذها قبل الوصايا الاختيارية للجد.
الدافع وراء الوصية الإلزامية ومستحقيها
تم استحداث هذه الوصية لمعالجة وضع الأحفاد الأيتام للمتوفى، حيث لا يرثون بطبيعة الحال، ويرث أعمامهم، وقد يكونون في فقر وحاجة، بينما أعمامهم ليسوا كذلك. وقد جاء استحداث هذه الوصية تماشيًا مع مقاصد الشريعة الإسلامية في توزيع التركة على أساس من العدل والإنصاف.
أما عن مستحقيها، فهم الأحفاد الذين مات أبوهم قبل وفاة الجد أو الجدة (أو مات معهما). فإذا لم يوصِ الجد أو الجدة لهؤلاء الأحفاد بمثل نصيب أصلهم (أبوهم)، وجبت لهم الوصية بمثل هذا النصيب، على ألا يزيد ذلك على الثلث. وقد قال الله تعالى: “كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ”.
أولوية تنفيذ الوصية الإلزامية
تقديم تنفيذ الوصية الإلزامية على الوصايا الاختيارية هو أيضًا أمر واجب، لأنها تتضمن حقًا للعباد، وبالتالي فهي أولى من الوصايا الاختيارية التي يقصد بها الأجر والثواب، مع التأكيد على ألا تزيد عن الثلث. فإذا استغرق مجموع الوصايا الإلزامية والاختيارية ثلث التركة، يتم تنفيذها جميعًا.
شروط استحقاق الوصية الإلزامية
ورد في قانون الأحوال الشخصية شروط لاستحقاق الأحفاد للوصية الإلزامية، وهي:
- أن يكون مجموع حصة الأحفاد من هذه الوصية بمثل حصة أصلهم (الأب المتوفى)، على ألا يزيد ذلك عن الثلث.
- يُستثنى الأحفاد من هذه الوصية إذا كانوا ورثة لجدهم، أو إذا كان قد فُرض لهم في حياته بمثل حصة أبيهم من التركة. فإن فُرض لهم أقل من حصة أبيهم، يُكمل لهم، وإن فُرض لهم أكثر، يُعتبر الزائد وصية اختيارية.
- تكون الوصية لأولاد الابن وإن نزلوا، وتقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين.
- هذه الوصية الإلزامية مُقدمة في التنفيذ من ثلث التركة على الوصايا الاختيارية، وإذا لم يفرضها الجد، يفرضها القاضي.