فهرس المحتويات
مقدمة
عندما أرسى النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – أسس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وضع قوانين شاملة تنظم حياة جميع السكان. لم يكن المسلمون هم المجموعة الوحيدة في المدينة، لذلك كانت هناك حاجة إلى قواعد تنظم التعامل مع الديانات الأخرى كاليهود والمسيحيين وغيرهم. هذه القواعد، التي تم تدوينها في وثيقة تاريخية غالبًا ما يشار إليها بالدستور الأول في الإسلام، حددت إطارًا للتعايش السلمي.
بدأت الوثيقة بعبارة: (هذا كتاب من محمّد النبي – عليه الصلاة والسلام – بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن اتّبعهم فلحق بهم وجاهد معهم). ثم ذكرت تفصيلاً للمعاملات بين المسلمين وغيرهم من سكان المدينة، مع التمييز بين غير المسلمين المسالمين وأولئك الذين قد يكونون معادين. فيما يتعلق بالمجموعات المسالمة، ذكرت الوثيقة: (وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم). هذا البيان يمثل بداية حماية أهل الذمة والأقليات والمعاهدين في الإسلام. طالما أنهم اتبعوا قوانين الدولة الإسلامية واعترفوا بسلطتها، يحق لهم الحماية من أي ضرر، سواء من داخل الدولة أو من خارجها.
توضيح معنى الذمة
في اللغة العربية، الذمة مشتقة من الفعل “ذمم” وتعني العهد والأمان. يقال “ذممت فلاناً” أي عهدته وأمنته. وتأتي الذمة بمعنى البئر قليلة الماء، ويقال “بئر ذمة”. أما “أهل الذمة” فهم أهل العهد والأمان. وقد ورد في الحديث الشريف: (ويسعى بذمّتهم أدناهم). والسبب في تسميتهم بأهل الذمة هو أنهم يدفعون الجزية مقابل الأمان على دمائهم وأموالهم.
الذمة في الاصطلاح الشرعي
في الفقه الإسلامي، مصطلح “الذمة” له معانٍ متعددة. قد يستخدم بشكل مطلق، أو مرتبطًا بكلمات أخرى لتغيير معناه المحدد. فيما يلي توضيح للمقصود بالذمة وأهل الذمة في السياق الشرعي:
الذمة: هي الصفة الإنسانية الفطرية التي بموجبها تثبت للإنسان حقوق على غيره، وتلزمه واجبات تجاه غيره.
أهل الذمة: هم الأفراد غير المسلمين الذين يعيشون في الدولة الإسلامية والذين أبرموا اتفاقًا مع المسلمين لدفع الجزية والالتزام بشروط معينة مقابل الحفاظ على دينهم وتوفير الأمن والحماية لهم.
نظرة الكتاب والسنة لأهل الذمة
حثت الشريعة الإسلامية السمحة على المعاملة الحسنة مع جميع الناس، وخاصة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وفقًا لشروط وقواعد وأحكام محددة، وخاصة إذا كانوا مسالمين وغير معادين وملتزمين بالشروط المفروضة عليهم من عدم الإساءة للإسلام وعدم إظهار شعائرهم وعقائدهم. وأكدت الشريعة على أن معاملتهم يجب أن تكون بالعدل والإحسان، ومقابلة الحسنة بالحسنة، وعدم التعرض لهم ما لم يتعرضوا للإسلام وأهله. وقد قال الله عز وجل: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقتِه أو أخذ منه شيئًا بغيرِ طيبِ نفسٍ فأنا حجيجُه يوم القيامةِ، وأشار رسولُ اللهِ صلى الله عليهِ وسلَّمَ بأصبعِه إلى صدرِه ألا من قتل معاهدًا له ذمةُ اللهِ وذمةُ رسولِه حرم اللهُ عليه ريحَ الجنةِ وإن ريحَها لتوجدُ من مسيرةِ سبعين خريفًا).
وتزخر السنة النبوية بالعديد من الأدلة التي تؤكد على ذلك.
الجزية
الجزية هي مبلغ من المال يفرضه الحاكم أو من ينوب عنه، ويقدر حسب حالة أهل الذمة المقيمين في الدولة الإسلامية، ويقدر بالذهب أو الفضة أو النقود الرائجة، أو غيرها من الأشياء المباحة كالثياب والحديد والمواشي ونحوها. ولا تجب الجزية على الصبي، أو المرأة، ولا العبد، ولا الفقير، ولا المجنون، ولا الأعمى، ولا الراهب. وإذا أدى أهل الذمة ودفعوا ما عليهم من جزية أو خراج بموجب عقد الذمة وجب قبولها منهم وحرم قتالهم، ووجب تأمينهم من أي عدوان يلحق بهم من داخل الدولة الإسلامية أو خارجها، وإن أسلم منهم أحد سقطت عنه الجزية.
عند استلام الجزية من أهل الذمة يجب إظهار القوة لهم، واستلامها من أيديهم وهم صاغرون لقوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).
يشترط في عقد الجزية على أهل الذمة عدد من الشروط التي يجب عليهم الالتزام بها حتى يضمن لهم الحاكم الأمان ويخضعوا لأحكام الدولة بموجب عقد الذمة، منها:
- أن لا يطعنوا بكتاب الله بتحريف، أو يذكروه بسوء.
- أن لا يُسيؤوا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو أصحابه، أو أيّ شيء يمسّهم من ازدراءٍ أو تكذيب.
- أن لا يذمّوا الإسلام أو يقدحوا به سراً أو علانيةً.
- أن لا يعقدوا على مسلمة بعقد نكاح أو يمسّوها بزنا أو محرم.
- أن لا يفتنوا مسلماً عن دينه، أو يتعرّضوا لمال مسلم أو دينه أو عبادته.
- أن لا يُعينوا أهل الحرب والكفر من خارج الدولة الإسلامية على المسلمين بالقتال أو بنقل الأخبار أو بالدعم المالي، أو غير ذلك، بل يجب عليهم الدّفاع عن الدولة الإسلاميّة مع المُسلمين إذا تعرّضت لاعتداءٍ من خارج الدولة.
المراجع
- “دستور المدينة.. مفخرة الحضارة الإسلامية”، صيد الفوائد.
- رواه أحمد شاكر، في مسند أحمد، عن علي بن أبي طالب، الصفحة أو الرقم: 2/212.
- أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، أبو الحسين (1986)، معجم اللغة لابن فارس (الطبعة الثانية)، بيروت: مؤسسة الرسالة، صفحة 354، جزء 1.
- محمد صدقي آل بورنو (2003)، موسوعة القواعد الفقهية (الطبعة الأولى)، بيروت: الرسالة، صفحة 166، جزء 9.
- مجموعة من العلماء (1427)، الموسوعة الفقهية الكويتية (الطبعة الثانية)، الكويت: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، صفحة 57، جزء 19.
- سورة الممتحنة، آية: 8.
- رواه السخاوي، في الأجوبة المرضية، عن آباء عدة من أبناء أصحاب النبي، الصفحة أو الرقم: 2/436، إسناده جيد.
- أبالفتوى رقم 2889 (24-03-2014)، “معاملة أهل الكتاب في الإسلام”، دائرة الإفتاء العام في المملكة الأردنية الهاشمية.
- سورة المائدة، آية: 5.
- رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم: 2508.
- سورة التوبة، آية: 29.
- أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الماوردي (2014)، الأحكام السلطانية، عمان – الأردن: وزارة الثقافة في المملكة الأردنية الهاشمية، صفحة 166.