مقدمة
يهتم علم الجغرافيا بدراسة التنوع والاختلافات على سطح الأرض، ويشمل ذلك فهم التفاعلات بين الإنسان والبيئة. الفكر الجغرافي يمثل مجموعة الأفكار التي تستخدم لتفسير هذا التنوع وفهمه والتعامل معه. حظي هذا المجال باهتمام كبير من قبل العلماء، ويتجلى ذلك في الاستكشافات الجغرافية وجهود ربط الجغرافيا بالقضايا الاجتماعية. يسعى الباحثون حاليًا لتعزيز الاهتمام بتاريخ وفلسفة هذا العلم وإعادة إحيائه.
تطورت الجغرافيا عبر مراحل تاريخية متعددة، ساهمت كل مرحلة في تشكيلها وصقلها. فيما يلي عرض لأبرز هذه المراحل وتطوراتها.
فترات العصور القديمة (المرحلة الأولى)
في المراحل المبكرة، كان الاهتمام بالجغرافيا مقتصرًا على عدد قليل من الحضارات. تشير الأدلة إلى أن هذا الاهتمام بدأ مع بدء الحضارات في التجارة مع بعضها البعض. تجلى هذا في العصور القديمة الكلاسيكية، بين القرنين التاسع والعاشر قبل الميلاد والقرنين الأول والثاني الميلاديين.
لا توجد إنجازات كبيرة في الفكر الجغرافي خلال هذه الفترة، ولكن يمكن الإشارة إلى ما يلي:
- بدأ الإغريق والهنود والصينيون بالتركيز على الجغرافيا، وسيطروا على هذا المجال في بداية العصور القديمة الكلاسيكية.
- شهدت الدراسات الجغرافية نهضة في الحضارة الرومانية قرب نهاية الفترة الكلاسيكية.
- أسهمت الحضارة الإغريقية في فتح طرق التجارة العالمية، مما دفع علمائها لدراسة جغرافية العالم واكتساب المعرفة.
العصر الوسيط (لأوروبا)
ساهمت بعض الأحداث في تطوير الفكر الجغرافي خلال العصور الوسطى، بين عامي 500-800 م و 1200-1400 م، وخاصة في أوروبا. من أهم هذه الأحداث:
- لم يحقق الأوروبيون إنجازات كبيرة في بداية هذه المرحلة بسبب هيمنة الكنيسة وسيطرتها على العلوم والحياة.
- كانت الأفكار مقيدة بالدين، وتم رفض أي قوانين تتعارض معه.
- لم يكن العلم مدعومًا من السلطات.
- ازدهر العرب في دراسة العلوم، وخاصة الجغرافيا، على عكس أوروبا.
- امتلك العرب المعرفة والقوة، وسيطروا على الطرق التجارية البرية المؤدية إلى شرق آسيا.
- برز علماء عرب مثل ابن بطوطة والمسعودي، الذين يعتبرون روادًا في الفكر الجغرافي.
- بدأت النهضة الأوروبية قرب نهاية هذه المرحلة.
النهضة الأوروبية وأثرها
بدأت النهضة الأوروبية مع نهاية سلطة الكنيسة، وشهدت تطورات في مجالات متعددة، بما في ذلك:
- بدأ العلماء الأوروبيون في إجراء البحوث والدراسات العلمية.
- دعم الحكام والملوك الاستكشافات العلمية، على عكس الكنيسة.
- تزايدت الطموحات الاقتصادية للحكام الأوروبيين، مما أدى إلى البحث عن طرق للوصول إلى الهند وغيرها من الدول.
- دعم التجار الحكام، مما يعني دعم الدراسات الجغرافية.
- اندلعت الحروب الصليبية في محاولة للسيطرة على القدس، بعد الاكتشافات الجغرافية الأوروبية.
عصر الاستكشافات والرحلات
أصبح الفكر الجغرافي أكثر اتساعًا بعد أن كان مرتبطًا بالتجارة. تجلى ذلك في عصر الاستكشافات والرحلات، الذي تميز بما يلي:
- ساهمت النهضة الأوروبية في الاعتماد على قدرات الإنسان لاستكشاف المزيد، بدلاً من الاكتفاء بالدين.
- تصدّر العرب مجال الاكتشافات الجغرافية.
- اطّلع العلماء على الأماكن المكتشفة ورسموا الخرائط، مما أدى إلى اكتشاف خريطة العالم.
- طوّر الجغرافيون أدوات جديدة للملاحة.
- ظهرت دراسات جغرافية جديدة نتيجة للرحلات، مثل دراسات المد والجزر وأمواج المحيط.
- اكتشف الباحثون أماكن جديدة وتعرفوا على ثقافاتها وجغرافيتها وسكانها، مثل اكتشاف أمريكو فسبوتشي لأمريكا الشمالية، واكتشاف الإسبان والبرتغاليين لأمريكا الجنوبية، واكتشاف فاسكو دا جاما للهند، واكتشاف البريطانيين لنيوزيلندا وأستراليا.
الجغرافيا في الفترة ما قبل الكلاسيكية
تمتد هذه المرحلة بين عامي 100-1600 م. من الأحداث التي ساهمت في تطور الفكر الجغرافي خلالها:
- برز فلاسفة جغرافيون مثل برنارد فيرانيوس عام 1650 م وإيمانويل كانت عام 1750 م.
- ساهم هؤلاء الفلاسفة في وضع الأسس الفلسفية للفكر الجغرافي.
- أثبت الفلاسفة إمكانية اعتماد الجغرافيا كمجال علمي وفلسفي.
المرحلة الكلاسيكية الحديثة في الجغرافيا
بدأت هذه المرحلة في أوائل القرن التاسع عشر (1800-1860 م). على الرغم من أن الأحداث كانت قليلة، إلا أنها كانت مهمة:
- تم اعتماد الجغرافيا كأحد مجالات الدراسات العلمية الحديثة.
- ظهر علماء جغرافيا مثل ألكسندر فون همبولت وكارل ريتر.
وجهات نظر ونماذج في الجغرافيا
خلال الفترة الممتدة بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، سادت العديد من الأحداث التي كان لها دور في تطور التفكير الجغرافي، والتي شملت الدراسات والمناقشات العلمية، ومنها الآتي:
- صياغة نظرية الثنائية في الجغرافيا والتي تنص على أن العالم ينقسم ويتباين إلى جزأين، وإجراء العديد من النقاشات حولها.
- مناقشة مسألة التفريق بين مفاهيم الفيزيائية والبشرية، وتفسير كل منهما على قدر المساواة، وخلص العلماء إلى أنّ دراسة الجغرافيا البشرية لها دور في فهم العوامل البشرية وأثرها على البيئة وتعزيز إمكانيات البشر التقنية.
- مناقشة مسألة البيئة مقابل الإنسان، وأيهما أكثر أهمية.
- إجراء مناظرات ونقاشات حول الجغرافيا الإقليمية كدراسة الهيمالايا، وتفريقها عن الجغرافيا العامة أو العالمية (قوانين الجغرافيا العامة التي تشمل الجبال، والأنهار، وغيرها).
- صدور كتاب أنثروبولوجيا الجغرافيا من تأليف راتزيل في عام 1880م، واحتوى الكتاب على مجلدين، ناقش المجلد الأول مفهوم حتميّة الجغرافيا وثوابتها وحدّد هويتها، بينما تناول المجلد الثاني مسألة احتمالية علم الجغرافيا ونظرياتها.
- إجراء مناقشات موسعة حول الحتمية والاحتمالية، كما فعل جريفيث تايلور، إذ أكد على عدم وجود فروق جوهرية بينهما، ولكنّه انحاز للحتمية مجادلًا أنّ البيئة توفّر الإمكانيات للإنسان ولكنها خاضعة للقيود فمثلًا، لا يمكننا الزراعة في الصحراء، مما يعني أنّه محدد بقيود على الرغم من إمكانيّة الزراعة في أماكن أخرى.
- إقامة نقاشات حول التفريق بين الجغرافيا الإقليمية والجغرافيا المنهجية، وذلك خلال ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته، إذ بإمكان الباحثين توظيف الجغرافيا الإقليمية في وصف المناطق دون وضع قوانين بشأنها، إذ تضطلع الجغرافيا المنهجية بصياغة القوانين.
- عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت مرحلة الثورة الكمية التي تضمنت العديد من الإنجازات في مجال التفكير الجغرافي، ومنها الآتي:
- طوّر الباحثون العديد من النماذج التي ساهمت في تقدم الدراسات الجغرافية وتحديد المواقع، كنموذجي فون ثونن وألفريد ويبر.
- ظهر عدد من النظريات والافتراضات المبسطة بشأن الجغرافيا، كفرضية سطح الخواص، والرجل العقلاني، وغيرها.
- وضع بعض العلماء نظريات لم يكُن لها أيّ أثر إيجابي كقوانين المثالية التي لا تمت للواقع بصلة، وتفسير السلوك المتغيّر للإنسان الذي ليس له صلة بالدراسات الجغرافية.
- ظهرت الثورة الحرجة بعد الانتقادات التي طالت مرحلة الثورة الكميّة في محاولة لتصويب الأوضاع، ومن أبرز سماتها الآتي:
- انتقاد القوانين المثالية والافتراضات المعيارية والتعميمات الزائفة التي ظن واضعوها أنها ستعزز من مصداقية الجغرافيا كنظام علمي.
- ظهور فرعي الجغرافيا السلوكية والجغرافيا الإنسانية.
- استحداث الجغرافيا السلوكية لتأييد القوانين الكمية وتعميمها، ولتناقض افتراض أن الإنسان عبارة عن شخص اقتصادي عقلاني، واتبعت نهجًا تحليليًا، إلا أنها كررت بعض أفكار الثورة الكمية.
- استحداث الجغرافيا الإنسانية لرفض القوانين الكمية وتعميمها، إذ أنه لا توجد قوانين تشمل جميع الأشخاص، فكل شخص مميز عن غيره ووحدهم الأفراد من بإمكانهم تقدير تنوعهم والإقرار به، واتبعت هذه الجغرافيا نهجًا وصفيًا.
- تطوّر الفكر الجغرافي خلال سبعينيات القرن العشرين، ومن أبرز معالمه خلال هذه الفترة ما يأتي:
- وظّف الباحثون الجغرافيا في حل القضايا الاجتماعية ومسائل التنمية.
- ألقى زالينسكي، رئيس الرابطة الأمريكية للجغرافيين، خطابًا حول وجوب اعتماد الجغرافيا في معالجة مشاكل المجتمع وقضاياه.
- طوّر الجغرافيون مدارس الفكر الجغرافي.
- ظهور النهج الراديكالي المتطرف الذي يهدف إلى تغيير البنية الاجتماعية باتباع أساليب ثورية، كالفكر الماركسي والاشتراكي.
- ظهور نهج الرفاه البشري.
التفكير الجغرافي المعاصر
يشهد العالم تطورات مستمرة في مختلف المجالات، والجغرافيا ليست استثناءً. ظهرت مصطلحات وتقنيات جديدة، وأصبح علمًا متميزًا يسعى لتحقيق اكتشافات واسعة. كما هو الحال مع المجالات الأخرى، يعتمد الفكر الجغرافي على أسس علمية تهتم بالإنسان والموارد والاقتصاد والمناطق.
في الماضي، كان الفكر الجغرافي يقتصر على اكتشاف مناطق جديدة، ثم توسع ليشمل المظاهر الطبيعية. حاليًا، يهتم بتوظيف الاستقصاء والفهم والبيانات الجغرافية وعمليات المعالجة والهيكلة التي تستخدمها المجالات العلمية الأخرى.
يتجه الفكر الجغرافي الحديث نحو تحقيق أهداف مثل تعزيز الروابط بين الناس، وإيجاد حلول عملية لمشاكل العصر، وتوفير مجال لتطبيق المهارات الجغرافية التي تستخدم التحليلات والدراسات الاستقصائية بما يتوافق مع العصر الحديث.
المراجع
- WITOLD WILCZYNSKI,ON THE NECESSITY OF THE HISTORY OF GEOGRAPHICAL THOUGHT, Page 1. Edited.
- Lotus Arise (13/1/2021),”Evolution of Geographical Thought: Notes for UPSC”,Lotus Arise, Retrieved 12/12/2021. Edited.
- Monika (1/1/2020),”Modern Geography”,pupils tutor, Retrieved 12/12/2021. Edited.
- Monika (1/1/2020),”Modern Geograpghy”,pupils tutor, Retrieved 12/12/2021. Edited.