مقدمة حول التشبيه في الشعر الجاهلي
ازدهرت الصور البلاغية، وعلى رأسها التشبيه، في الشعر الجاهلي، لا سيما عند شعراء الصنعة الذين أولوا اهتمامًا بالغًا بتحسين قصائدهم وتجويدها. برز من هؤلاء الشعراء أوس بن حجر، وزهير بن أبي سلمى، والأعشى، والنابغة الذبياني، ولبيد بن ربيعة، وغيرهم. اتسم التشبيه في العصر الجاهلي بعدة سمات أهمها:
- الاهتمام الكبير بالتشبيه من الناحيتين اللفظية والمعنوية، مما جعله حاضرًا بقوة منذ بداية الشعر العربي.
- التنوع في أنماط التشبيه، حيث نجد التشبيه التمثيلي والمجمل والمرسل والتام الأركان، وغيرها من الأنواع.
- تعدد المصادر التي استقى منها الشعراء تشبيهاتهم. فمنها ما كان مستوحى من الطبيعة كالبحر والصحراء والنهر، ومنها ما استمد من عالم الحيوان، ومنها ما كانت مصادره من حياة البشر.
- التوسع في وصف المشبه به، حتى قد يستغرق ذلك عدة أبيات.
- التركيز على عناصر الحركة والصوت واللون بشكل مؤثر، وبدلالات فنية تعبر عن الجمال.
- الحرص على إبراز التفاصيل الدقيقة والجزئيات الصغيرة.
نماذج من التشبيه في الشعر الجاهلي
تتجلى براعة التشبيه في الشعر الجاهلي في العديد من القصائد، ومن أبرزها:
تشبيهات في معلقة الأعشى
يقول الأعشى ميمون بن قيس في معلقته:
وَدِّع هُرَيرَةَ إِنَّ الرَكبَ مُرتَحِلُ
وَهَل تُطيقُ وَداعاً أَيُّها الرَجُلُ
غَرّاءُ فَرعاءُ مَصقولٌ عَوارِضُها
تَمشي الهُوَينا كَما يَمشي الوَجي الوَحِلُ
كَأَنَّ مِشيَتَها مِن بَيتِ جارَتِها
مَرُّ السَحابَةِ لا رَيثٌ وَلا عَجَلُ
تَسمَعُ لِلحَليِ وَسواساً إِذا اِنصَرَفَت
كَما اِستَعانَ بِريحٍ عِشرِقٌ زَجِلُ
لَيسَت كَمَن يَكرَهُ الجيرانُ طَلعَتَها
وَلا تَراها لِسِرِّ الجارِ تَختَتِلُ
يَكادُ يَصرَعُها لَولا تَشَدُّدُها
إِذا تَقومُ إِلى جاراتِها الكَسَلُ
إِذا تُعالِجُ قِرناً ساعَةً فَتَرَتوَا
ِوَاهتَزَّ مِنها ذَنوبُ المَتنِ وَالكَفَلُ
مِلءُ الوِشاحِ وَصِفرُ الدَرعِ بَهكَنَةٌ
إِذا تَأَتّى يَكادُ الخَصرُ يَنخَزِلُ
صَدَّت هُرَيرَةُ عَنّا ما تُكَلِّمُنا
جَهلاً بِأُمِّ خُلَيدٍ حَبلَ مَن تَصِلُ
أَأَن رَأَت رَجُلاً أَعشى أَضَرَّ بِهِ
رَيبُ المَنونِ وَدَهرٌ مُفنِدٌ خَبِلُ
نِعمَ الضَجيعُ غَداةَ الدَجنِ يَصرَعُها
لِلَّذَةِ المَرءِ لا جافٍ وَلا تَفِلُ
هِركَولَةٌ فُنُقٌ دُرمٌ مَرافِقُها
كَأَنَّ أَخمَصَها بِالشَوكِ مُنتَعِلُ
إِذا تَقومُ يَضوعُ المِسكُ أَصوِرَةً
وَالزَنبَقُ الوَردُ مِن أَردانِها شَمِلُ
ما رَوضَةٌ مِن رِياضِالحَزنِ
مُعشَبَةٌ
خَضراءُ جادَ عَلَيها مُسبِلٌ هَطِلُ
يُضاحِكُ الشَمسَ مِنها كَوكَبٌ شَرِقٌ
مُؤَزَّرٌ بِعَميمِ النَبتِ مُكتَهِلُ
أمثلة على التشبيهات في القصيدة:
- “تَمشي الهُوَينا كَما يَمشي الوَجي الوَحِلُ”: تشبيه كامل الأركان، حيث شبه الشاعر مشية محبوبته “هريرة” بمشية المتعب في الوحل، فذكر المشبه والمشبه به والأداة ووجه الشبه.
- “كَأَنَّ مِشيَتَها مِن بَيتِ جارَتِها مَرُّ السَحابَةِ”: تشبيه مؤكد، فقد وصف مشية “هريرة” بالمرور الهادئ للسحابة، مع ذكر المشبه والمشبه به ووجه الشبه وحذف الأداة.
- “هِركَولَةٌ فُنُقٌ”: تشبيه بليغ، شبه “هريرة” بالمرأة ممتلئة الأرداف، مع ذكر المشبه والمشبه به وحذف الأداة ووجه الشبه.
- “ما رَوضَةٌ مِن رِياضِالحَزنِ مُعشَبَةٌ خَضراءُ جادَ عَلَيها مُسبِلٌ هَطِلُ يُضاحِكُ الشَمسَ مِنها كَوكَبٌ شَرِقٌ مُؤَزَّرٌ بِعَميمِ النَبتِ مُكتَهِلُ”: هنا يصف الشاعر بجمال الطبيعة، ويشبهها بالروضة الخضراء المزهرة.
تشبيهات في معلقة عنترة
يقول عنترة بن شداد في معلقته:
فيها اِثنَتانِ وَأَربَعونَ حَلوبَةً
سوداً كَخافِيَةِ الغُرابِ الأَسحَمِ
إِذ تَستَبيكَ بِذي غُروبٍ واضِحٍ
عَذبٍ مُقَبَّلُهُ لَذيذِ المَطعَمِ
وَكَأَنَّ فارَةَ تاجِرٍ بِقَسيمَةٍ
سَبَقَت عَوارِضَها إِلَيكَ مِنَ الفَمِ
أَو رَوضَةً أُنُفاً تَضَمَّنَ نَبتَها
غَيثٌ قَليلُ الدِمنِ لَيسَ بِمَعلَمِ
جادَت عَليهِ كُلُّ بِكرٍ حُرَّةٍ
فَتَرَكنَ كُلَّ قَرارَةٍ كَالدِرهَمِ
سَحّاً وَتَسكاباً فَكُلَّ عَشِيَّةٍ
يَجري عَلَيها الماءُ لَم يَتَصَرَّمِ
وَخَلا الذُبابُ بِها فَلَيسَ بِبارِحٍ
غَرِداً كَفِعلِ الشارِبِ المُتَرَنِّمِ
هَزِجاً يَحُكُّ ذِراعَهُ بِذِراعِهِ
قَدحَ المُكِبِّ عَلى الزِنادِ الأَجذَمِ
تُمسي وَتُصبِحُ فَوقَ ظَهرِ حَشِيَّةٍ
وَأَبيتُ فَوقَ سَراةِ أَدهَمَ مُلجَمِ
وَحَشِيَّتي سَرجٌ عَلى عَبلِ الشَوى
نَهدٍ مَراكِلُهُ نَبيلِ المَحزِمِ
هَل تُبلِغَنّي دارَها شَدَنِيَّةٌ
لُعِنَت بِمَحرومِ الشَرابِ مُصَرَّمِ
خَطّارَةٌ غِبَّ السُرى زَيّافَةٌ
تَطِسُ الإِكامَ بِوَخذِ خُفٍّ ميثَمِ
وَكَأَنَّما تَطِسُ الإِكامَ عَشِيَّةً
بِقَريبِ بَينَ المَنسِمَينِ مُصَلَّمِ
تَأوي لَهُ قُلُصُ النَعامِ كَما أَوَت
حِزَقٌ يَمانِيَةٌ لِأَعجَمَ طِمطِمِي
يَتبَعنَ قُلَّةَ رَأسِهِ وَكَأَنَّهُ
حِدجٌ عَلى نَعشٍ لَهُنَّ مُخَيَّمِ
صَعلٍ يَعودُ بِذي العُشَيرَةِ بَيضَهُ
كَالعَبدِ ذي الفَروِ الطَويلِ الأَصلَمِ
أمثلة على التشبيهات في القصيدة:
- “فيها اِثنَتانِ وَأَربَعونَ حَلوبَةً سوداً كَخافِيَةِ الغُرابِ”: تشبيه تام الأركان، شبه النوق السود بريش جناح الغراب، مع ذكر المشبه والمشبه به والأداة ووجه الشبه.
- “وَكَأَنَّ فارَةَ تاجِرٍ بِقَسيمَةٍ سَبَقَت عَوارِضَها”: تشبيه مجمل، شبه أنفاس الحبيبة بعطر فائر من فارة العطار، مع ذكر المشبه والمشبه به والأداة وحذف وجه الشبه.
تشبيهات في معلقة طرفة بن العبد
يقول طرفة بن العبد في معلقته:
لِخَولَةَ أَطلالٌ بِبُرقَةِ ثَهمَدِ
تَلوحُ كَباقي الوَشمِ في ظاهِرِ اليَدِ
وُقوفاً بِها صَحبي عَلَيَّ مَطيَّهُم
يَقولونَ لا تَهلِك أَسىً وَتَجَلَّدِ
كَأَنَّ حُدوجَ المالِكيَّةِ غُدوَةً
خَلايا سَفينٍ بِالنَواصِفِ مِن دَدِ
عَدَوليَّةٌ أَو مِن سَفينِ اِبنِ يامِنٍ
يَجورُ بِها المَلّاحُ طَوراً وَيَهتَدي
يَشُقُّ حَبابَ الماءِ حَيزومُها بِها
كَما قَسَمَ التُربَ المُفايِلُ بِاليَدِ
وَفي الحَيِّ أَحوى يَنفُضُ المَردَ شادِنٌ
مُظاهِرُ سِمطَي لُؤلُؤٍ وَزَبَرجَدِ
خَذولٌ تُراعي رَبرَباً بِخَميلَةٍ
تَناوَلُ أَطرافَ البَريرِ وَتَرتَدي
وَتَبسِمُ عَن أَلمى كَأَنَّ مُنَوِّراً
تَخَلَّلَ حُرَّ الرَملِ دِعصٌ لَهُ نَدي
سَقَتهُ إِياةُ الشَمسِ إِلّا لِثاتِهِ
أُسِفَّ وَلَم تَكدِم عَلَيهِ بِإِثمِدِ
وَوَجهٌ كَأَنَّ الشَمسَ حَلَّت رِدائَها
عَلَيهِ نَقِيُّ اللَونِ لَم يَتَخَدَّدِ
وَإِنّي لَأَمضي الهَمَّ عِندَ اِحتِضارِهِ
بِعَوجاءَ مِرقالٍ تَروحُ وَتَغتَدي
أَمونٍ كَأَلواحِ الأَرانِ نَصَأتُها
عَلى لاحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهرُ بُرجُدِ
جَماليَّةٍ وَجناءَ تَردي كَأَنَّها
سَفَنَّجَةٌ تَبري لِأَزعَرَ أَربَدِ
تُباري عِتاقاً ناجِياتٍ وَأَتبَعَت
وَظيفاً وَظيفاً فَوقَ مَورٍ مُعَبَّدِ
تَرَبَّعَتِ القُفَّينِ في الشَولِ تَرتَعي
حَدائِقَ مَوليِّ الأَسِرَّةِ أَغيَدِ
أمثلة على التشبيهات في القصيدة:
- “لِخَولَةَ أَطلالٌ تَلوحُ كَباقي الوَشمِ في ظاهِرِ اليَدِ”: تشبيه تام الأركان، شبه آثار الديار الظاهرة من بعيد ببقايا الوشم على ظاهر اليد، مع ذكر المشبه والمشبه به والأداة ووجه الشبه.
- “كَأَنَّ حُدوجَ المالِكيَّةِ خَلايا سَفينٍ”: تشبيه مجمل، شبه الحدوج بالسفن، مع ذكر المشبه والمشبه به والأداة وحذف وجه الشبه.
- “وَوَجهٌ كَأَنَّ الشَمسَ حَلَّت رِدائَها عَلَيهِ نَقِيُّ اللَونِ”: تشبيه تام الأركان، شبه وجه الحبيبة بنقاء نور الشمس، مع ذكر المشبه والمشبه به والأداة ووجه الشبه.
المراجع
- بشار محمد جبر أبو نصير المصاروة، التشبيه التمثيلي بين السعة والإيجاز في الشعر الجاهلي، صفحة 255 – 260. بتصرّف.
- “ودع هريرة إن الركب مرتحل”، الديوان.
- “هل غادر الشعراء من متردم”، الديوان.
- “لخولة أطلال ببرقة ثهمد”، الديوان.