نظرة في الأبيات الافتتاحية
تعتبر القصيدة التي نظمها ابن عربي في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم تحفة أدبية تجمع بين عمق المعاني وجمال اللغة. يستهل الشاعر قصيدته بمقدمة غزلية رقيقة، يظهر فيها تأثره بالتقاليد الشعرية العربية العريقة، حيث جرت العادة أن تبدأ القصائد بمقدمة طللية أو غزلية. إلا أن اختيار ابن عربي للمقدمة الغزلية يحمل دلالة خاصة، فهو شيخ صوفي، والتصوف يقوم على الحب الإلهي والعشق الروحي.
يخاطب الشاعر الحمامات التي تستقر على شجرتي الأراك والبان، ويتوجه إليهن بطلب الرفق، متأثرًا بشجونه وأحزانه. اختيار شجرة الأراك ليس عشوائيًا، فهي شجرة مباركة ذكرت في القرآن الكريم، وتستخدم في السواك الذي حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل كل صلاة. يطلب الشاعر من الحمامات أن يشاركنه أحزانه، فهي تذكره بمحبوبه الغائب.
أَلا يا حَماماتِ الأَراكَةِ وَالبانِ:::تَرَفَّقنَ لا تُضعِفنَ بِالشَجوِ أَشجاني
تَرَفَّقنَ لا تُظهِرنَ بِالنوحِ وَالبُكا:::خَفِيَّ صَباباتي وَمَكنونَ أَحزاني
أُطارِحُها عِندَ الأَصيلِ وَبِالضُحى:::بِحَنَّةِ مُشتاقٍ وَأَنَّةِ هَيمانِ
تَناوَحَتِ الأَرواحُ في غَيضَةِ الغَضا:::فَمالَت بِأَفنانٍ عَلَيَّ فَأَفناني
وَجاءَت مِنَ الشَوقِ المُبَرِّحِ وَالجَوى:::وَمِن طُرَفِ البَلوى إِلَيَّ بِأَفنانِ.[١]
يصف الشاعر كيف أنه يصارح الحمامات بحبه وعذابه، وكيف أن صوته يختنق بالبكاء والآهات، حتى أن الأرواح تستمع إلى نحيبه وتأتي لمواساته، وتحيط به كأغصان الشجر. هذه الصورة الشعرية تعكس مدى الألم والوجد الذي يعيشه الشاعر.
تحليل صورة المديح النبوي
في هذا القسم من القصيدة، ينتقل الشاعر إلى وصف مشاعره تجاه النبي صلى الله عليه وسلم، مستخدمًا صورًا حسية ومعاني دينية عميقة. يعبر عن شوقه لرؤية الأماكن المقدسة المرتبطة بالنبي، ويتمنى أن يحظى بلمحة من عبق ذكراه.
فَمَن لي بِجَمعٍ وَالمُحَصَّبِ مِن مِنىً:::وَمَن لي بِذاتِ الأُثلِ مَن لي بِنَعمانِ
تَطوفُ بِقَلبي ساعَةً بَعدَ ساعَةٍ:::لِوَجدٍ وَتَبريحٍ وَتَلثُمُ أَركاني
كَما طافَ خَيرُ الرُسلِ بِالكَعبَةِ الَّتي:::يَقولُ دَليلُ العَقلِ فها بِنُقصانِ
وَقَبَّلَ أَحجاراً بِها وَهُوَ ناطِقٌ:::وَأَينَ مَقامُ البَيتِ مِن قَدرِ إِنسانِ
فَكَم عَهِدَت أَن لا تَحولَ وَأَقسَمَت:::وَلَيسَ لِمَخضوبٍ وَفاءٌ بِأَيمانِ.[١]
يصف الشاعر حركة المشاعر في قلبه بحركة الطواف حول الكعبة، وهي حركة مستمرة لا تنتهي، تعبر عن الحب الدائم والمستقر في قلبه. يوظف الشاعر لفظة “الطواف” المرتبطة بفريضة الحج، مما يضفي على القصيدة بعدًا دينيًا وروحيًا.
يشبه الشاعر حركة هذا الحب الشديد بطواف النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة، وهذا التشبيه يوضح أن كلا الطوافين نابع من حب عميق. فالرسول يحب الله عز وجل ويتقرب إليه بالطواف حول أقدس مكان، بينما الحب النبوي في قلب ابن عربي يطوف بأقدس مكان في جسد الإنسان وهو القلب. يذكر الشاعر أن النبي قد قبّل الحجر الأسود، ولكنه يستدرك أن تشبيهه هذا فيه تحفظ، فمهما بلغ قلبه لن يصل لعظمة وقدسية الكعبة.
تأملات في تصوير القلب
يولي المتصوفة اهتمامًا خاصًا بالقلب، لأنه مصدر الخير والشر، وموجه الإنسان نحو الصلاح أو الفساد. يصف ابن عربي قلبه بأوصاف متعددة، مستخدمًا عناصر من الطبيعة.
وَمَن عَجَبِ الأَشياءِ ظَبيٌ مُبَرقَعٌ:::يُشيرُ بِعُنّابٍ وَيَومي بِأَجفانِ
وَمَرعاهُ ما بَينَ التَرائِبِ وَالحَشا:::وَيا عَجَباً مِن رَوضَةٍ وَسطَ نيرانِ
لَقَد صارَ قَلبي قابِلاً كُلَّ صورَةٍ:::فَمَرعىً لِغِزلانٍ وَدَيرٌ لِرُهبانِ
وَبَيتٌ لِأَوثانٍ وَكَعبَةُ طائِفٍ:::وَأَلواحُ تَوراةٍ وَمُصحَفُ قُرآنِ
أَدينُ بِدَينِ الحُبِّ أَنّي تَوَجَّهَت:::رَكائِبُهُ فَالحُبُّ دَيني وَإيمانيلَنا أُسوَةٌ في بِشرِ هِندٍ وَأُختِها:::وَقَيسٍ وَلَيلى ثُمَّ مَيٍّ وَغَيلانِ.[١]
يصف الشاعر قلبه بأنه مرعى للغزلان، ودير للرهبان، وبيت للأوثان، وكعبة للطائفين، وألواح توراة ومصحف قرآن. هذا الوصف يعكس انفتاح قلبه على جميع الأديان والثقافات، وقبوله لكل إنسان بغض النظر عن معتقده. فالحب هو أساس التصوف، وهو يهدف إلى تحقيق السلام الروحي والعقلي للإنسان.