فهرس المحتويات
مقدمة
تعتبر قصيدة “أنا من نظر الأعمى إلى أدبي” لأبي الطيب المتنبي من أبرز ما جادت به قريحته الشعرية. هذا العمل الأدبي يمثل تحفة فنية متكاملة، تتطلب دراسة متأنية للعناصر المكونة لها. تحليل هذه القصيدة يستند إلى عدة جوانب أساسية، تشمل الموسيقى الشعرية، اللغة المستخدمة، الأساليب البلاغية، والصور الفنية التي استخدمها الشاعر. هذه الدراسة تسعى إلى استكشاف هذه العناصر بعمق، لإبراز جماليات النص وكشف النقاب عن المعاني الكامنة فيه.
الموسيقى الظاهرية للقصيدة
في بناء هذا النص، عمد أبو الطيب المتنبي إلى اختيار بحر البسيط، وهو أحد البحور الشعرية المعروفة بتركيبها. على الرغم من كونه بحراً مركباً، إلا أنه كان شائعاً بين شعراء العصر القديم. إن اختيار المتنبي لهذا البحر يدل على تمكنه وقدرته الفائقة على تطويع البحور المعقدة للتعبير عن مختلف الأفكار والمعاني التي أراد إيصالها في قصيدته. يتميز هذا البحر بسلاسة وعذوبة في الأداء، مما يجعله مناسبًا للغرض الذي استخدمه المتنبي، وهو التعبير عن الحزن والعتاب لسيف الدولة الحمداني. كما يتيح هذا البحر للشاعر فرصة واسعة للتعبير عن مشاعره وآلامه النفسية الناتجة عن إهمال سيف الدولة له، فهو بحر ذو امتداد زمني ومكاني يمكن الشاعر من التعبير بحرية عن حالته.
القافية و حرف الروي
استخدم المتنبي في قصيدته قافية مطلقة غير مقيدة، وهي من نوع المتراكب، بمعنى أنها تنتهي بثلاث حركات بين ساكنين. هذه القافية تنسجم مع الحالة النفسية التي كان يعيشها الشاعر، وتعكس تقلبات مشاعره أثناء علاقته بسيف الدولة. إنها تعكس أيضًا صورة لانفعالات الشاعر المرتبطة بالمدح، على الرغم من المأساة التي كان يعاني منها.
أما حرف الروي فهو الميم، وهو صوت شفوي أنفي مجهور متوسط، وقد كان اختيارًا موفقًا لخدمة القصيدة. يتميز هذا الحرف بمكانته المتوازنة بين الشدة والرخاوة، وهو ما يمكن ملاحظته بوضوح سمعيًا. إن تكرار المتنبي للقافية يأتي للتأكيد على المعنى الذي يريده، وإشباع حرف الروي يطيل الصوت معبرًا عن معاناة الشاعر وإحساسه المتألم الحزين، كما يظهر قوته وجهاده لنفسه أمام ما فعله سيف الدولة به فهو شخصية شجاعة قوية عزيزة قادرة على الصبر والتحمل.
التطريز اللفظي
التطريز هو التناسب الصوتي والتوافق الموسيقي بين التفعيلة الأخيرة في الشطر الأول والتفعيلة الأخيرة في الشطر الثاني، مع تطابق الحرف الأخير من الكلمتين. استخدم المتنبي هذه التقنية لخلق جو موسيقي جميل يجذب الانتباه، وبالتالي يتمكن من إيصال شكواه إلى المستمع أو القارئ. مثال على ذلك، استخدامه للتطريز في بداية القصيدة:
واحرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ
وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
نلاحظ هنا أن كلمة (شبم) متطابقة تمامًا مع كلمة (سقم)، كما أن العجز متطابق مع الصدر في وزن البيت، مما يثري الموسيقى الداخلية في القصيدة ويشعر المستمع باستمتاع كبير، فالعاطفة والانفعال في الحديث تشعرنا بمشاعر أبي الطيب أثناء نظم القصيدة.
الموسيقى الخفية
تعتبر الموسيقى الداخلية العامل الأساسي في نقل مشاعر الأديب والتعبير عن أحاسيسه. لتحقيق ذلك، استخدم المتنبي الأصوات المجهورة في القصيدة، وذلك لتوضيح عاطفته الصادقة وكأنه يصرخ بمشاعره، يحدث الناس عن حالة الأسى والحزن التي أصابته جراء ما فعله به سيف الدولة، فمن خلال استخدام هذه الأصوات المجهورة يعاتبه ويشكوه فيسمعه كل الناس ويشعرون بحاله، كما استخدم الأصوات الانفجارية حتى تدلل بجرسها القوي على الصراعات النفسية التي نجمت عن جفوة سيف الدولة له بعد ما كان من صداقة وأخوة وود بينهما.
ومن أمثلة ذلك قوله:
واحرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ
وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
مالي أكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرى جَسَدي
وتَدَّعي حبَّ سيفِ الدَولَةِ الأمَمُ
إن كانَ يَجمَعُنا حبٌّ لِغُرَّتِهِ
فليتَ أنَّا بِقَدْرِ الحبِّ نَقتسِمُ
في هذه الأبيات، يتكرر حرف الراء، وهو حرف مجهور تكراري، وأحيانًا يكون مفخمًا كما في (واحر قلباه)، حيث الراء ساكنة وما قبلها مفتوح، مما يعطي وضوحًا وعمقًا للدلالة، ويرتبط بقوة بعاطفة الشاعر القوية والعميقة. ولا ينسى أن حرف الراء يتميز بعدم استقراره وهو ما ينطبق على الشاعر من حيث اضطرابه وعدم ثبات مشاعره.
كما استخدم الشاعر أسلوب تكرار الكلمات أحيانًا لبيان مواضع اهتماماته ويعرفها للمستمع، ويعتبر التكرار من عناصر الموسيقى الداخلية المهمة الذي يفيد في بيان نغمة القصيدة، وقوة معاني الصورة وهي كثيرة في القصيدة ومنها تكرار لفظة (جهل) في قوله:
وجاهلٍ مدَّه في جهلِهِ ضَحِكي
حَتّى أتَتْه يدٌ فرَّاسةٌ وفَمُ
لغة النص الشعري
تنوعت مفردات القصيدة بين ما يعبر عن الشكوى والعتاب والشجاعة وغيرها، ولكنها تميزت جميعها بالقوة والفخامة، مما انعكس على لغة القصيدة بشكل عام، فظهرت برداء الفخامة والرقة والجزالة. ويرجع ذلك إلى قوة سبك المتنبي للأبيات وقدرته على حسن النظم، فاللفظ يتبع ما يتحدث عنه الشاعر، فإن مدح أظهر حبه وشوقه وإن عاتب رقّ واستعطف، وإن فخر بنفسه قويت ألفاظه، وجزلت لتدلّ على المراد وتصل إلى الهدف.
الأسلوب و التصوير الفني
تزخر القصيدة بألوان البديع والبيان والمعاني، فالاستعارات والكنايات والتشابيه أضفت جمالًا على نظم المتنبي للأبيات وأظهرت موسيقى متناسقة متنوعة، أما المحسنات اللفظية فحضرت من خلال الأبيات بشكل لافت. الجانب اللغوي في القصيدة يظهر دقة استخدام الألفاظ حسب الموقف الذي يصفه ويتحدث عنه. تميزت القصيدة بالكثير من العواطف وتصويرها عبر الصورة الشعرية المنتزعة من الموقف فكانت صورا تحلق في سماء الإبداع، إن أسلوب المتنبي يظهر شخصيته عبر العبارات والجمل مستخدمًا خيالًا واسعًا ولغة جزلة قوية.
في هذا الإطار، استخدم المتنبي العديد من المحسنات البديعية المعنوية واللفظية. على سبيل المثال، استخدم التشبيه الضمني لإظهار حالته ومشاعره بشكل مركب، كما في قوله:
إذا رأيتَ نيوبَ الليث بارزةً
فَلا تَظُنَّنَّ أنَّ اللَيثَ يبتَسِمُ
إنه يشبه نفسه بالأسد الذي يبرز أسنانه وتظن الفريسة أنه يبتسم لها كحاله (المتنبي) مع خصومه الذين أوغروا صدر سيف الدولة عليه. وفي مواقف أخرى، استخدم الاستعارة التصريحية أو المكنية حسبما يقتضي المقام، كما في قوله:
الخيلُ والليلُ والبيداءُ تَعْرِفُني:
والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقَلمُ
هذا البيت يتضمن استعارة مكنية، حيث تحدث الشاعر عن الخيل والليل والبيداء وكأنها إنسان يعرف ويدرك ولها عقل يفكر وكذلك السيف والرمح والورق والقلم، واستخدم لفظة تعرفني على سبيل الاستعارة المكنية. كما استخدم المتنبي الكناية والجناس والطباق في كثير من الأبيات على سبيل التنويع في إظهار مشاعره.
الجانب الدلالي
استخدم المتنبي الكثير من المفردات المعجمية الدالة على ما يريد فتارة يستخدم مفردات تدل على الحيوان (الخيل – الجواد – الناقة – اللیث –الوحش)، وأخرى على الجمادات (الرمح – السیف – القرطاس – القلم)، وفي أحيان على الطبيعة (الأرض – البیداء – القور – الأكم – البلاد – الغمام – الدیم)، أو على الإنسان (المتنبي –سیف الدولة– حاسدنا – الأمم – خلق الله – الناس – قوم – عرب – عجم – العدو – الجیش – أهل النهى – الجحفلین – أخو الدنیا – صدیق -الأعمى)، ولكنها جميعًا تصب في المعنى الذي أضفاه الشاعر على هذه المفردات، وتكتسب دلالات جديدة غير دلالتها المعجمية لتكون أكثر عمقًا وغنى وأشد تعبيرًا وتأثيرًا.
التركيب اللغوي
التركيب اللغوي يشمل البحث في التركيب الاسمي والفعلي والتقديم والتأخير والتعريف، وقد ظهر في القصيدة على النحو الآتي:
من ناحية التركيب الفعلي، نجد أن المتنبي وظف الفعل الماضي بكثرة في محاولة لبيان الأحداث التي وقعت في الماضي، حيث أراد أن يحكيها للسامع بشكل دقيق، ومنها: (نظرت) للدلالة على الشجاعة، (تصافحت) دليل الشوق والحنين، الفعل الماضي (أكتم) دليل التوجع إلى حد الانفجار.
أما الفعل المضارع، فقد استخدمه بكثرة في القصيدة ليدل على استمرارية ما يحصل معه وعدم انتهاء المشكلة، ومن هذه الأفعال: (يجمعنا، تدعي، تصنع، يلزمها، يواريهم، ترى، تحسب، تسعى، يسهر، تعجب، تطلبون، تأتون، تستقل، تجوز، نفارقهم، ترحلت، تقتضي).
من ناحية التركيب الاسمي، فقد وضح الشاعر من خلال الجمل الاسمية العديد من الأخبار والمعلومات وهي كثيرة في القصيدة، مثل: واحر قلبا، الخيل والليل، وما انتفاع أخي، وغيرها.
أما التقديم والتأخير، فلم نره كثيرًا في القصيدة، إلا أنه ظهر في أبيات (الخيل، الليل، الأعمى، السيف).
خلاصة
في الختام، يتضح أن قصيدة “أنا من نظر الأعمى إلى أدبي” تمثل قمة الإبداع الشعري للمتنبي. من خلال استخدام اللغة الرفيعة، والأساليب البلاغية المتقنة، والصور الفنية المعبرة، استطاع الشاعر أن ينقل لنا صورة حية عن مشاعره وعواطفه. هذه القصيدة ليست مجرد كلمات منظومة، بل هي تعبير صادق عن تجربة إنسانية عميقة، تجعلها خالدة في ذاكرة الأدب العربي.