فهرس المحتويات
تصوير وضع المعتدين يوم الحساب
بعد أن وجه الله -سبحانه وتعالى- الانتباه إلى سلوك الكافرين، من تغييرهم لنعم الله، وفي سياق الآيات السابقة، يفتتح ربنا -عز وجل- آياتنا هذه، بما يتناسب مع ما سبقها، وذلك ضمن النسق القرآني المترابط، فيذكر مصير الظالمين، تذكيراً يردعهم، وتثبيتاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين. إذ يقول الله -تعالى-:
﴿وَلا تَحسَبَنَّ اللَّـهَ غافِلًا عَمّا يَعمَلُ الظّالِمونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُم لِيَومٍ تَشخَصُ فيهِ الأَبصارُ* مُهطِعينَ مُقنِعي رُءوسِهِم لا يَرتَدُّ إِلَيهِم طَرفُهُم وَأَفئِدَتُهُم هَواءٌ﴾ [إبراهيم: 42-43].
إذ ينهى الله -جل جلاله- نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- عن أن يظن بأن الله -عز وجل- غير مدرك لأفعال الظالمين، وأنه يتركهم دون عقاب على ظلمهم، فإمهالهم وتأخيرهم ليس دليلًا على الغفلة، بل إن حسابهم سيكون شديدًا وعظيمًا، ويتضح ذلك من هيئتهم؛ حيث تكون أبصارهم مرتفعة ومفتوحة لا تغمض من شدة الفزع الذي يرونه في يوم حسابهم، وهو يوم القيامة.
ثم يزيد الله -تعالى- في تصوير حالهم في ذلك اليوم، تصويرًا يذهل العقول، فيوضح وضعهم عندما يخرجون من قبورهم، مسرعين نحو المحشر، رافعين رؤوسهم، شاخصي الأبصار لا يطرفون؛ وذلك من هول ما يلاقون من أحداث جسام، وقلوبهم خاوية لا تفقه شيئًا، من شدة الخوف والدهشة.
وبعد توكيد حقيقة علم الله -تعالى- بأعمال الظالمين، ومحاسبتهم عليها، من خلال نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الظن بغير ذلك، يأتي أمر الله -تعالى- للنبي -صلى الله عليه وسلم-، بأن يحذر الناس، أي الكافرين، من يوم معلوم سيأتيهم حتماً، وحينها سيحل بهم العذاب.
قال -تعالى-:
﴿وَأَنذِرِ النّاسَ يَومَ يَأتيهِمُ العَذابُ﴾ [إبراهيم: 44].
ويحتمل هذا اليوم ثلاثة أوجه:
- يوم خروجهم من القبور للحساب، وهو يوم القيامة.
- يوم موتهم، وما سيلاقونه فيه من عذاب سكرات الموت.
- يوم العذاب العاجل في الدنيا، كما حدث مع الأمم السابقة.
دحض آخر أكاذيب الظالمين
يسعى الظالمون إلى النجاة من المصير الذي وصلوا إليه، بكذبة جديدة، ومكر آخر، وكأنهم تفاجئوا بما حل بهم، وكأن الرسل والآيات لم تأتهم لتحذرهم من هذا اليوم، وتعطيهم الفرص تلو الفرص، دون أن ينصاعوا للحق، ويتخلوا عن كبرهم وإصرارهم على الضلال.
فيكون أول رد من الله -جل وعلا- عليهم، من خلال ألسنتهم توبيخاً لهم:
﴿أَوَلَم تَكونوا أَقسَمتُم مِن قَبلُ ما لَكُم مِن زَوالٍ﴾ [إبراهيم: 44].
أي: ألم تكونوا من شدة إنكاركم لهذا اليوم، تقسمون بأنكم لن تتغيروا، ولن تبعثوا بعد موتكم؟ وأنكم استمرأتم كفركم؛ فلم تستغلوا الفرصة التي تتمنونها الآن؟
إذ أتيحت لكم الفرصة عندما سكنتم في نفس القرى التي نزل بها العذاب على الأمم الكافرة التي سبقتكم،
﴿وَسَكَنتُم في مَساكِنِ الَّذينَ ظَلَموا أَنفُسَهُم وَتَبَيَّنَ لَكُم كَيفَ فَعَلنا بِهِم﴾ [إبراهيم: 45].
وكان واضحًا لكم حينها وضعكم هذا، من وضع الأمم التي سبقتكم، وما وصلوا إليه من عذاب في الدنيا، فكيف سيكون العذاب يوم القيامة؟
﴿وَضَرَبنا لَكُمُ الأَمثالَ﴾ [إبراهيم: 45].
بل إننا يا من تطلبون فرصة جديدة للإمهال، قد أمهلناكم، عندما لم تعتبروا بمصير من سبقكم من الأمم، ومنحناكم فرصًا متجددة؛ بأن ضربنا لكم الأمثال، في كل ما ترونه من آيات الله -تعالى- وفي كل ما تسمعونه، مما جاءت به رسلكم من الأمثال، بل وفي مصير الأمم السابقة، التي أصبح ما حل بها عبرة وعظة.
قوة تدبير الماكرين في هذه الحياة
يقول -جل شأنه-:
﴿وَقَد مَكَروا مَكرَهُم﴾ [إبراهيم: 46].
ومن شدة ظلمهم وكفرهم، عندما سكنوا مساكن الظالمين من قبلهم، أنهم اقتدوا بهم، بدلًا من أن يعتبروا بهم، فدبروا تدبيرهم، أي تدبير من سبقهم من الأمم في الكفر، وفي صد المؤمنين عن إيمانهم، والله مطلع على ما يدبرون، ومسجل له، وهذا هو وقت الحساب عليه.
﴿وَعِندَ اللَّـهِ مَكرُهُم﴾ [إبراهيم: 46].
وقد يحمل هذا المعنى، أن الله -تعالى- أعد لهم من التدبير في الآخرة، ما يفوق تدبيرهم في الدنيا، وهو العذاب الأليم؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
﴿وَإِن كانَ مَكرُهُم لِتَزولَ مِنهُ الجِبالُ﴾ [إبراهيم: 46].
شبه الله -سبحانه- المؤمنين في قوة إيمانهم بالجبال، وأن تدبير أولئك الظالمين الذين يتمنون الفرصة الكاذبة، كاد أن يفتن المؤمنين عن دينهم، لشدته وهوله.
المصادر
- سورة إبراهيم، الآيات: 42-46.
- تفسير القرآن الكريم لابن كثير.
- التفسير الميسر.