فهرس المحتويات
- نظرة في آيات فضل صلح الحديبية
- تأملات في آيات المتخلفين عن صلح الحديبية
- دراسة لآيات بيعة الرضوان وثناء الله على المبايعين
- استبصارات في آيات الحكمة من المصالحة وإيقاف القتال
- تدبر في آيات نصر الله لرسوله الكريم
نظرة في آيات فضل صلح الحديبية
سورة الفتح هي سورة مدنية، أنزلت على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بين مكة والمدينة بعد إبرام صلح الحديبية. تتناول السورة جوانب متعددة من هذا الصلح التاريخي، وتؤكد على أهميته وفضله. في هذا الجزء، سنتناول الآيات الست الأولى التي تتحدث عن هذا الصلح المبارك:
(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) [الفتح:1]
في هذه الآية، يبشر الله سبحانه وتعالى نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بأنه قد منّ عليه بفتح واضح وجلي، والذي تجسد في صلح الحديبية. بينما يرى بعض العلماء أن هذا الفتح المبين هو إشارة إلى فتح مكة المستقبلي، يذهب أغلب المفسرين إلى أنه يعني صلح الحديبية نفسه.
(لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّـهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) [الفتح:2]
هذه الآية تحمل بشرى عظيمة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث يبين الله تعالى أنه بفضله وتوفيقه للنبي في إتمام هذا الصلح، سيغفر له ذنوبه السابقة واللاحقة. وقد استقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية بفرح شديد، معبرًا عن ذلك بقوله: (لقد أُنزِلَت عليَّ آيةٌ أحبُّ إليَّ مِمَّا علَى الأرضِ).
(وَيَنصُرَكَ اللَّـهُ نَصْرًا عَزِيزًا) [الفتح:3]
تعد هذه الآية وعدًا آخر من الله تعالى لنبيه الكريم بنصر لا يعقبه ذل. ويرى بعض المفسرين أنها إشارة إلى فتح مكة الذي تحقق فيما بعد.
(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّـهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [الفتح:4]
هنا، يمتن الله سبحانه وتعالى على الصحابة الكرام بأنه أنزل السكينة والطمأنينة في قلوبهم، مما أدى إلى زيادة إيمانهم. وعلى الرغم من أن الله يمتلك جنود السماوات والأرض، إلا أنه شرع الجهاد للمؤمنين ليحظوا بالأجر العظيم.
(لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّـهِ فَوْزًا عَظِيمًا) [الفتح:5]
تحمل هذه الآية بشرى عظيمة للمؤمنين والمؤمنات بدخول الجنة وتكفير الذنوب، وهي تتكامل مع الوعد بالمغفرة الذي ورد في الآية الثانية.
(وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّـهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [الفتح:6]
في المقابل، تحمل هذه الآية تهديدًا للمنافقين والمشركين الذين ظنوا بالله ظن السوء، بالعذاب الشديد وغضب الله وسوء المصير.
تأملات في آيات المتخلفين عن صلح الحديبية
تتناول الآيات من (11) إلى (17) في سورة الفتح موضوع المتخلفين عن صلح الحديبية، وتكشف عن أعذارهم الواهية ونواياهم الخفية. نستعرض هذه الآيات بتفصيل:
(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّـهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [الفتح:11]
توضح هذه الآية أن الأعراب الذين تخلفوا عن مرافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة، قدموا أعذارًا كاذبة بانشغالهم بأموالهم وأهليهم. ولكن الله فضح نفاقهم وبين أن خوفهم لا مبرر له، لأن قدرة الله فوق كل شيء.
(بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا) [الفتح:12]
تكشف هذه الآية عن حقيقة ما كان يدور في قلوب المتخلفين، حيث كانوا يظنون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين لن يعودوا إلى أهليهم أبدًا، وزين لهم الشيطان هذا الظن السيئ، فصاروا قومًا بورًا لا خير فيهم.
(وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا) [الفتح:13]
هذه الآية تبين مصير من يفعل فعلة هؤلاء المتخلفين، وهو العذاب الأليم.
(وَلِلَّـهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الفتح:14]
تؤكد هذه الآية على أن الله هو المتصرف المطلق في الكون، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء بحكمته وعدله، وتدعو إلى التوبة والإنابة.
(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّـهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّـهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) [الفتح:15]
عندما سمع المتخلفون بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سيذهب لأخذ غنائم خيبر، أرادوا أن يشاركوا هذه المرة، ولكن الله قد وعد بأن تكون هذه الغنائم خاصة بمن شارك في الحديبية.
(قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّـهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [الفتح:16]
هذه الآية تمثل اختبارًا للمتخلفين، حيث سيتم دعوتهم لمواجهة عدو قوي (وهم قوم مسيلمة الكذاب). فإن أطاعوا، فسيحصلون على الأجر الحسن في الدنيا والآخرة، وإن تولوا كما فعلوا في الحديبية، فسيستحقون العذاب الأليم.
(لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا) [الفتح:17]
تستثني هذه الآية أصحاب الأعذار الحقيقية من الجهاد، وتؤكد على أهمية طاعة الله ورسوله.
دراسة لآيات بيعة الرضوان وثناء الله على المبايعين
تتحدث الآيات من (18) إلى (23) عن بيعة الرضوان، وهي البيعة التي بايع فيها الصحابة الكرام النبي -صلى الله عليه وسلم- تحت الشجرة في الحديبية. وقد أثنى الله تعالى على هؤلاء المؤمنين ووعدهم بالخير الجزيل:
(لَّقَدْ رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا*وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا*وَعَدَكُمُ اللَّـهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا*وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّـهُ بِهَا وَكَانَ اللَّـهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا*وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا*سُنَّةَ اللَّـهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا) [الفتح:18-23]
تبين هذه الآيات أن الله رضي عن المؤمنين الذين بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية، وأنه علم ما في قلوبهم من صدق وإخلاص، فأنزل عليهم السكينة والطمأنينة، وأثابهم بفتح قريب (وهو فتح خيبر) وغنائم كثيرة. كما وعدهم بفتح آخر لم يكونوا قادرين عليه، وهو فتح مكة.
استبصارات في آيات الحكمة من المصالحة وإيقاف القتال
توضح الآيات من (24) إلى (26) الحكمة الإلهية في منع القتال بين المسلمين والمشركين في الحديبية، وتفضيل الصلح لما فيه من خير للإسلام والمسلمين. كما أنها تشير إلى وجود مسلمين مستضعفين في مكة قد يقتلون بأيدي المؤمنين دون قصد.
وعند كتابة الصلح، رفض الكفار الاعتراف بنبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن الله ثبت المؤمنين على كلمة التقوى وأعانهم على تحمل شروط الصلح التي بدت مجحفة في حقهم.
تدبر في آيات نصر الله لرسوله الكريم
تؤكد الآيات من (27) إلى (29) على أن الله سينجز وعده لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بدخول المسجد الحرام، وهو ما تحقق في العام التالي لصلح الحديبية. كما أنها تشير إلى أن صلح الحديبية أدى إلى انتشار الإسلام وفتح خيبر.
وتختتم السورة الكريمة بوصف دقيق لصفات النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام، حيث تصفهم بالشدة على الكفار والرحمة فيما بينهم، وبالإكثار من الصلاة والعبادة، مما يظهر أثر الإيمان والوقار على وجوههم. وقد ذكرت التوراة بعضًا من هذه الصفات. أما الإنجيل، فقد شبههم بالنبات الضعيف الذي نما وتكاثر وأصبح قويًا ومستقيمًا. هذه الصفات تغيظ الكفار وأعداء الله.