جدول المحتويات
تأملات الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء
كان النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- دائم التفكر في حال قومه وما يعبدون من أصنام وأوثان، ولم يكن يجد في ذلك راحة أو اطمئنانًا. لم يقتنع بتلك المعتقدات والممارسات التي تخالف الفطرة السليمة، لذلك آثر الابتعاد عنهم وعن مظاهر الجاهلية التي كانوا يعيشونها. ومع ذلك، فقد حافظ على ما كان حسنًا في عاداتهم، مثل إغاثة الملهوف، والوقوف بجانب الضعيف، وإكرام الضيف.
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتزل الناس في غار حراء، وهو مكان يقع في الجهة الشرقية من مكة المكرمة، وتحديدًا في أعلى جبل النور، على يسار المتجه إلى عرفات. يرتفع الغار حوالي 634 مترًا عن سطح الأرض، ومساحته محدودة، بالكاد تتسع لأربعة أشخاص. المسافة بين جبل النور والمسجد الحرام تقدر بأربعة كيلومترات. الغار عبارة عن تجويف في الجبل، وبابه يتجه نحو الشمال، وعند الدخول إليه يكون المتجه مستقبلًا للكعبة المشرفة.
أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم في خلوته
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يمضي أوقاتًا طويلة في الغار، يقوم خلالها بأعمال وتأملات عديدة، منها:
- كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يمكث في غار حراء ليالي عديدة، وكان يقضي شهر رمضان بأكمله فيه، وكانت زوجته خديجة -رضي الله عنها- تتولى إحضار الطعام والشراب له.
- كان -صلى الله عليه وسلم- يجلس في الغار متفكرًا في بديع صنع الله وعظمة الكون، ناظرًا إلى المخلوقات التي تدل على قدرة الخالق. ورغم ذلك، لم يكن يعرف الطريقة الصحيحة لعبادة الله، إذ لم تكن قد نزلت عليه الشريعة بعد. لذلك، عندما أرسله الله نبيًا، ذكره بهذه الحقيقة في قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾.
- كان -صلى الله عليه وسلم- يراقب الكعبة المشرفة من داخل الغار، ويتأمل في أحوال المجتمع الذي يعيش فيه، باحثًا عن سبل إصلاحه وتقويمه.
تفاصيل نزول جبريل عليه السلام على النبي
عندما بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- سن الأربعين، وفي ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، بالتحديد ليلة السابع والعشرين، وبينما كان يتعبد في غار حراء، نزل عليه جبريل -عليه السلام-. كان هذا الحدث عظيمًا وصعبًا على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان الوحي يأتي بقوة وشدة، ليدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ما يراه هو حقيقة لا تقبل الشك، وليس مجرد حلم عابر.
تصف السيدة عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- هذا الحدث قائلة:
“(أوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ في النَّوْمِ، فَكانَ لا يَرَى رُؤْيا إلَّا جاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلاءُ، وكانَ يَخْلُو بغارِ حِراءٍ فَيَتَحَنَّثُ فيه – وهو التَّعَبُّدُ – اللَّيالِيَ ذَواتِ العَدَدِ قَبْلَ أنْ يَنْزِعَ إلى أهْلِهِ، ويَتَزَوَّدُ لذلكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِها، حتَّى جاءَهُ الحَقُّ وهو في غارِ حِراءٍ، فَجاءَهُ المَلَكُ فقالَ: اقْرَأْ، قالَ: ما أنا بقارِئٍ، قالَ: فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي، فقالَ: اقْرَأْ، قُلتُ: ما أنا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي، فقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أرْسَلَنِي، فقالَ: {اقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ (2) اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ} [العلق: 1- 3])”.
عودة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى منزله
بعد هذا الحدث العظيم، عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- مسرعًا إلى زوجته خديجة -رضي الله عنها-، وهو في حالة من الخوف والارتجاف، ينادي:(زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي).
استقبلته خديجة -رضي الله عنها- بحنان وعطف، وطمأنته وهدأت من روعه، وأخبرته أن الله -تعالى- لن يخذله أبدًا. ثم أخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، الذي كان على علم بالأديان السماوية، والذي أكد له أنه نبي مرسل من الله تعالى.
وتكمل السيدة عائشة الحديث قائلة:
“(فَرَجَعَ بهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حتَّى دَخَلَ علَى خَدِيجَةَ، فَقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، فَقالَ: يا خَدِيجَةُ، ما لي؟ وأَخْبَرَهَا الخَبَرَ، وقالَ: قدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي، فَقالَتْ له: كَلَّا، أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ به خَدِيجَةُ حتَّى أتَتْ به ورَقَةَ بنَ نَوْفَلِ)”.
إن خلوة النبي -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء قبل البعثة، ونزول الوحي عليه في هذا المكان، هو دعوة لكل مسلم إلى أن يختلي بنفسه ويتفكر في خلق الله، وأن يدعوه سبحانه وتعالى لكي تتنزل عليه الرحمات والمسرات. لقد كان غار حراء مسرحًا للقاء أعظم إنسان على وجه الأرض مع أعظم ملك في أعظم ليلة، وهي ليلة القدر.