القلب الطاهر في فكر ابن القيم

استكشاف مفهوم القلب السليم كما ورد في كتابات ابن القيم. يتناول المقال صفات القلب السليم وكيفية تحقيقه من خلال الرضا بقضاء الله والانقياد لشرعه، بالإضافة إلى أهمية سلامة الجوارح ودورها في إظهار سلامة القلب.

مقدمة

يعتبر القلب السليم من أهم المقومات التي تحدد مصير الإنسان في الآخرة، كما ورد في القرآن الكريم. يمثل هذا القلب النقاء والصفاء والبعد عن الشوائب والأمراض الروحية. في هذا المقال، نستعرض مفهوم القلب السليم كما ورد في كتابات ابن القيم الجوزية، مع التركيز على الصفات التي تميزه وكيفية الوصول إليه.

إن القلب هو مركز الإيمان ومصدر الأفعال، فإذا كان سليماً استقامت حياة الإنسان وإذا كان مريضاً فسدت أعماله. لذلك، فإن العناية بالقلب وتطهيره من الأمراض والآفات يعتبر من أهم الواجبات على كل مسلم.

يقول الله تعالى في كتابه الكريم:

“يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ”

(الشعراء: 88-89).

تشير هذه الآية الكريمة إلى أن النجاة يوم القيامة لا تتحقق بالمال أو البنين، وإنما بسلامة القلب ونقائه.

ويشير وصف القلب بـ “السليم” إلى أنه خالٍ من كل ما يغضب الله تعالى، ومليء بمحبته وخشيته. هذا القلب يكون طاهراً من الشرك والرياء والحسد والكبر، ومتصفاً بالإخلاص والصدق والتواضع.

أسس القلب الطاهر

هناك عدة جوانب رئيسية تساهم في تحقيق سلامة القلب وتجعله مؤهلاً للنجاة والفوز برضا الله. تتضمن هذه الجوانب الرضا بقضاء الله، والانقياد لشرعه، وسلامة الجوارح، وإخلاص الأفعال لله.

القبول بأحكام الله تعالى

يعتبر الرضا بقضاء الله وقدَره من أهم علامات سلامة القلب. فالقلب السليم هو الذي يرضى بكل ما يقدره الله له، سواء كان خيراً أو شراً، ويعلم أن كل شيء بقضاء الله وحكمته. فالذي يسخط على قضاء الله، فإنه يعرض نفسه للشك في قدرة الله وحكمته وعلمه.

إن الرضا بقضاء الله لا يعني الاستسلام للأمر الواقع وعدم السعي لتغييره، بل يعني التسليم بأن كل ما يحدث هو لحكمة يعلمها الله، وأن المؤمن يجب أن يسعى دائماً للأفضل مع الرضا بما قسمه الله له. كما يجب أن يمتلئ القلب بمحبة الله سبحانه وتعالى، بحيث لا يكون فيه مكان لمحبة شيء يعارض محبة الله أو يبعد عنه.

التسليم لنواميس الله و دينه

إن الانقياد لحكم الله وشرعه هو من الصفات الأساسية للقلب السليم. فالقلب الذي يخضع لأوامر الله ونواهيه، ويتبع شرعه، هو القلب الذي سلم من الاعتراض والشك. يجب أن يكون القلب مؤمناً بأن شريعة الله هي الحق، وأنها الطريق الوحيد للنجاة والفلاح.

إن التسليم لشرع الله يتطلب ائتمان الله واليقين بأنه لا يدلنا إلا على الخير والصلاح. فالقلب السليم يحب ما أحبه الله، ويفرح بالانقياد لأوامره ونواهيه، ويسعى جاهداً لتطبيقها في حياته اليومية.

أثر سلامة الأعضاء على القلب

تعتبر سلامة الجوارح دليلاً على سلامة القلب. فالقلب هو الملك، والجوارح هي جنوده، فإذا كان الملك صالحاً استقامت رعيته، وإذا كان فاسداً فسدت. لذلك، فإن الجوارح لا تفعل إلا ما يريده القلب، واللسان لا ينطق إلا بما استقر فيه.

فإذا كان القلب سليماً، فإن الجوارح تتسابق في فعل الخيرات والأعمال الصالحة، ويسارع اللسان إلى ذكر الله وقول الحق. أما إذا كان القلب مريضاً، فإن الجوارح تنقاد للهوى والشهوات، وينطق اللسان بالكذب والباطل.

الأفعال النقية للقلب الطاهر

القلب السليم يؤمن بالله رباً وإلهاً معبوداً، ويتوكل عليه في كل أموره، ويفوض إليه شؤونه، ويستعين به في كل لحظة. يخلص في عبادته لله، ويحبه حباً خالصاً، ويخشاه ويخافه، ويتقيه في السر والعلن.

يرجو رحمته وعفوه ومغفرته، ويطمئن لقضائه وقدره، ويعتقد بصفات الكمال المطلق لله، ويؤمن بأفعاله وتشريعه الحكيم. هذا القلب لا يتسلل إليه الشك، ولا تغلبه الشهوة، ولا تخدعه الأوهام والظنون.

تبجيل الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-

من تعظيم القلب السليم لله تعالى، تعظيم رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-. فالقلب السليم يرى في اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- تعظيماً لله وتعظيماً لشرعه. لذلك، فإنه ينقاد لأوامره ونواهيه، ويعمل بسنته وهديه.

ولا يقدم على سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- قول أحد أو فعله، فهو المبلِّغُ الأعظم عن الله، والمقتدى به في كل شيء. فالقلب السليم يدرك أن اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الطريق إلى محبة الله ورضوانه.

الجنة مكافأة القلب المشتاق

إن الجنة هي جزاء القلب السليم الذي سلم في الدنيا من التعلق بغير الله، وأخلص لربه، وامتلأ بمحبته، واطمأن بذكره، وآمن به وبخبره، وقاد جوارحه في سبيل رضوانه. فالقلب السليم يتملكه الشوق إلى لقاء ربه والفوز بجنته.

وهذا ما أكده الله -عز وجل- على لسان إبراهيم عليه السلام في قوله:

“وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ”

(الشعراء: 87-89).

المصادر

  1. سورة الشعراء، آية:88 -89
  2. ابن القيم،التفسير القيم، صفحة 414. بتصرّف.
  3. ابن القيم،مدارج السالكين، صفحة 2 -529. بتصرّف.
  4. ابن القيم،روضة المحبين، صفحة 169. بتصرّف.
  5. ابن القيم،إغاثة اللهفان، صفحة 8. بتصرّف.
  6. ابن القيم،روضة المحبين، صفحة 170. بتصرّف.
  7. ابن القيم،مفتاح دار السعادة، صفحة 42. بتصرّف.
  8. ابن القيم،مفتاح دار السعادة، صفحة 42. بتصرّف.
  9. سورة الشعراء، آية:87 -89
  10. ابن القيم،حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، صفحة 6 -7. بتصرّف.
Total
0
Shares
اترك تعليقاً
المقال السابق

القطع الزائد في الرياضيات

المقال التالي

أحكام القلقلة: الكبرى والصغرى

مقالات مشابهة