البصيرة أسبق من بسالة الأبطال

تحليل لقصيدة البصيرة أسبق من بسالة الأبطال للمتنبي، مع إبراز أهميتها في القيادة واتخاذ القرارات.

مقدمة

تعتبر قصيدة “الرأي قبل شجاعة الشجعان” للمتنبي من عيون الشعر العربي، حيث تتناول فكرة جوهرية حول أهمية التفكير السليم والتدبر قبل الإقدام على أي فعل، خاصة في المواقف التي تتطلب شجاعة وبسالة. فالشجاعة وحدها قد لا تكفي لتحقيق النصر أو النجاح، بل يجب أن تكون مدعومة بالرأي السديد والبصيرة النافذة. وتهدف هذه المقالة إلى استعراض وتحليل هذه القصيدة، وإبراز دلالاتها وأبعادها المختلفة.

نص القصيدة

يقول المتنبي في هذه القصيدة:

الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ
هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني

فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ
بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكانِ

وَلَرُبّما طَعَنَ الفَتى أقْرَانَهُ
بالرّأيِ قَبْلَ تَطَاعُنِ الأقرانِ

لَوْلا العُقولُ لكانَ أدنَى ضَيغَمٍ
أدنَى إلى شَرَفٍ مِنَ الإنْسَانِ

وَلما تَفَاضَلَتِ النّفُوسُ وَدَبّرَتْ
أيدي الكُماةِ عَوَاليَ المُرّانِ

لَوْلا سَميُّ سُيُوفِهِ وَمَضَاؤهُ
لمّا سُلِلْنَ لَكُنّ كالأجْفانِ

خاضَ الحِمَامَ بهنّ حتى ما دُرَى؟
أمِنِ احتِقارٍ ذاكَ أمْ نِسْيَانِ

وَسَعَى فَقَصّرَ عن مَداهُ في العُلى
أهْلُ الزّمانِ وَأهْلُ كلّ زَمَانِ

تَخِذُوا المَجالِسَ في البُيُوتِ وَعندَه
أنّ السّرُوجَ مَجالِسُ الفِتيانِ

وَتَوَهّموا اللعِبَ الوَغى والطعنُ في الــهَيجاءِ غَيرُ الطّعْنِ في الميدانِ

قادَ الجِيَادَ إلى الطّعانِ وَلم يَقُدْ
إلاّ إلى العاداتِ وَالأوْطانِ

كُلَّ ابنِ سَابقَةٍ يُغيرُ بحُسْنِهِ
في قَلْبِ صاحِبِهِ عَلى الأحزانِ

إنْ خُلِّيَتْ رُبِطَتْ بآدابِ الوَغَى
فدُعاؤها يُغني عنِ الأرْسانِ

في جَحْفَلٍ سَتَرَ العُيُونَ غبارُهُ
فكأنّمَا يُبْصِرْنَ بالآذانِي

يَرْمي بهَا البَلَدَ البَعيدَ مُظَفَّرٌ
كُلُّ البَعيدِ لَهُ قَرِيبٌ دانِ

فكأنّ أرْجُلَهَا بتُرْبَةِ مَنْبِجٍ
يَطرَحنَ أيديَها بحِصْنِ الرّانِ

حتى عَبرْنَ بأرْسَنَاسَ سَوَابحاً
يَنْشُرْنَ فيهِ عَمَائِمَ الفُرْسانِ

يَقْمُصْنَ في مثلِ المُدَى من بارِدٍ
يَذَرُ الفُحُولَ وَهنّ كالخصْيانِ

وَالماءُ بَينَ عَجاجَتَينِ مُخَلِّصٌ
تَتَفَرّقانِ بِهِ وَتَلْتَقِيَانِ

رَكَضَ الأميرُ وَكاللُّجَينِ حَبَابُهُ
وَثَنى الأعِنّةَ وَهْوَ كالعِقيانِ

فَتَلَ الحِبالَ مِنَ الغَدائِرِ فوْقَهُ
وَبَنى السّفينَ لَهُ منَ الصّلْبانِ

وَحَشاهُ عادِيَةً بغَيرِ قَوَائِمٍ
عُقُمَ البطونِ حَوَالِكَ الألوَانِ

تأتي بما سَبَتِ الخُيُولُ كأنّهَا
تحتَ الحِسانِ مَرَابضُ الغِزْلانِ

بَحْرٌ تَعَوّدَ أنْ يُذِمّ لأهْلِهِ
من دَهْرِهِ وَطَوَارِقِ الحِدْثَانِ

فتَرَكْتَهُ وَإذا أذَمّ مِنَ الوَرَى
رَاعَاكَ وَاستَثنى بَني حَمدانِ

ألمُخْفِرِينَ بكُلّ أبيَضَ صَارِمٍ
ذِممَ الدّرُوعِ على ذوي التّيجانِ

مُتَصَعْلِكينَ على كَثَافَةِ مُلكِهم
مُتَوَاضِعِينَ على عَظيمِ الشّانِ

يَتَقَيّلُونَ ظِلالَ كُلّ مُطَهَّمٍ
أجَلِ الظّليمِ وَرِبْقَةِ السِّرْحانِ

خَضَعتْ لمُنصُلكَ المَناصِلُ عَنوَةً
وَأذَلّ دِينُكَ سَائِرَ الأدْيانِ

وَعَلى الدّروبِ وَفي الرّجوعِ غضَاضَةٌ
وَالسّيرُ مُمْتَنِعٌ مِنَ الإمْكانِ

وَالطّرْقُ ضَيّقَةُ المَسَالِكِ بالقَنَا
وَالكُفْرُ مُجتَمعٌ على الإيمَانِ

نَظَرُوا إلى زُبَرِ الحَديدِ كأنّمَا
يَصْعَدْنَ بَينَ مَناكِبِ العِقْبانِ

وَفَوَارِسٍ يُحيي الحِمامُ نُفوسَها
فكأنّهَا لَيستْ مِنَ الحَيَوَانِ

مَا زِلتَ تَضرِبهُم دِرَاكاً في الذُّرَى
ضَرْباً كأنّ السّيفَ فيهِ اثْنانِ

خصّ الجَماجمَ وَالوُجوهَ كأنّمَا
جاءتْ إليكَ جُسُومُهمْ بأمانِ

فرَمَوْا بما يَرْمونَ عَنْهُ وَأدْبَرُوا
يَطَأونَ كُلّ حَنِيّةٍ مِرْنَانِ

يَغشاهُمُ مَطَرُ السّحاب مُفَصَّلاً
بمُهَنّدٍ وَمُثَقَّفٍ وَسِنَانِ

حُرِموا الذي أمَلُوا وَأدرَكَ منهُمُ
آمَالَهُ مَنْ عادَ بالحِرْمانِ

وَإذا الرّماحُ شَغَلنَ مُهجَةَ ثائِرٍ
شَغَلَتْهُ مُهْجَتُهُ عَنِ الإخْوَانِ

هَيهاتِ عاقَ عنِ العِوادِ قَوَاضِبٌ
كَثُرَ القَتيلُ بها وَقَلّ العَاني

وَمُهَذَّبٌ أمَرَ المَنَايَا فِيهِمِ
فأطَعْنَهُ في طاعَةِ الرّحْمانِ

قد سَوّدتْ شجرَ الجبالِ شُعُورُهم
فكأنّ فيهِ مُسِفّةَ الغِرْبانِ

وَجَرَى على الوَرَقِ النّجيعُ القَانِي
فكأنّهُ النّارَنْجُ في الأغصانِ

إنّ السّيُوفَ معَ الذينَ قُلُوبُهُمْ
كقُلُوبهنّ إذا التَقَى الجَمعانِ

تَلْقَى الحُسامَ على جَرَاءَةِ حدّهِم
مثلَ الجَبانِ بكَفّ كلّ جَبَانِ

رَفعتْ بكَ العرَبُ العِمادَ وَصَيّرَتْ
قِمَمَ المُلُوكِ مَوَاقِدَ النّيرانِ

أنسابُ فَخرِهِمِ إلَيْكَ وَإنّمَا
أنْسَابُ أصْلِهِمِ إلى عَدْنَانِ

يا مَنْ يُقَتِّلُ مَنْ أرَادَ بسَيْفِهِ
أصْبَحتُ منْ قَتلاكَ بالإحْسانِ

فَإِذا رَأَيتُكَ حارَ دونَكَ ناظِري
وَإِذا مَدَحتُكَ حارَ فيكَ لِساني

تحليل لأهم الأفكار

تتمحور الفكرة الرئيسية في القصيدة حول تقديم العقل والرأي على الشجاعة، فالشاعر يرى أن الرأي هو الأساس والشجاعة تأتي في المرتبة الثانية. وعندما يجتمع الرأي السديد مع الشجاعة في شخص واحد، فإنه يصل إلى أعلى المراتب. كما يشير إلى أن الفتى قد يتفوق على أقرانه بالرأي قبل أن يلجأ إلى القتال، مؤكداً على أن العقل هو ما يميز الإنسان ويرفع شأنه.

كما يلمح المتنبي إلى أن القادة الذين يعتمدون على التفكير الاستراتيجي والتدبير الحكيم، هم الأقدر على تحقيق النصر والمجد. فالشجاعة المتهورة قد تؤدي إلى الهلاك، بينما الشجاعة المقرونة بالرأي تؤدي إلى الفوز والتمكين.

دلالات القصيدة في القيادة

تحمل القصيدة دلالات عميقة في مجال القيادة، حيث تؤكد على أهمية التخطيط الاستراتيجي واتخاذ القرارات الصائبة قبل الإقدام على أي عمل. فالقائد الناجح هو الذي يمتلك رؤية واضحة وقدرة على تحليل المواقف واتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب. والشجاعة الحقيقية تكمن في القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة والمصيرية، حتى لو كانت تتطلب التضحية والمخاطرة.

وتشير القصيدة أيضاً إلى أهمية الاستشارة وتبادل الآراء قبل اتخاذ القرارات، فالرأي الجماعي غالباً ما يكون أكثر صواباً من الرأي الفردي. والقائد الحكيم هو الذي يستمع إلى آراء مستشاريه ومرؤوسيه، ويأخذها بعين الاعتبار قبل اتخاذ القرار النهائي.

الشجاعة المقرونة بالتفكير

لا تقلل القصيدة من أهمية الشجاعة، بل تؤكد على أنها يجب أن تكون مقرونة بالتفكير السليم والتدبر. فالشجاعة المتهورة قد تؤدي إلى نتائج عكسية، بينما الشجاعة المدروسة تؤدي إلى تحقيق الأهداف المنشودة. والقائد الشجاع هو الذي يمتلك القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة والمصيرية، حتى لو كانت تتطلب التضحية والمخاطرة، ولكن بعد دراسة متأنية وتقييم شامل للموقف.

كما أن الشجاعة لا تقتصر على الشجاعة الجسدية، بل تشمل أيضاً الشجاعة الأدبية، وهي القدرة على قول الحق والدفاع عنه، حتى لو كان ذلك يعرض الشخص للخطر. والقائد الشجاع هو الذي يمتلك القدرة على مواجهة التحديات والصعاب، والدفاع عن مبادئه وقيمه، حتى لو كان ذلك يعني معارضة الرأي العام.

الخلاصة

تعتبر قصيدة “الرأي قبل شجاعة الشجعان” للمتنبي من روائع الشعر العربي، حيث تحمل في طياتها حكمة بالغة حول أهمية العقل والتفكير في اتخاذ القرارات. فالشجاعة وحدها لا تكفي لتحقيق النجاح، بل يجب أن تكون مدعومة بالرأي السديد والبصيرة النافذة. وعلى القادة أن يعوا هذه الحقيقة، وأن يعتمدوا على التفكير الاستراتيجي والتدبير الحكيم في اتخاذ القرارات، وأن يستشيروا أهل الخبرة قبل الإقدام على أي عمل. فالشجاعة المقرونة بالتفكير هي مفتاح النصر والتمكين.

Total
0
Shares
اترك تعليقاً
المقال السابق

تأويلات حول رؤية الذهب في الأحلام

المقال التالي

التمييز بين الرؤى والأحلام المنامية

مقالات مشابهة

مقارنة بين الديمقراطية النيابية والديمقراطية بالمشاركة المباشرة

استكشاف الفرق بين الديمقراطية النيابية والديمقراطية بالمشاركة المباشرة. يشمل التعريف، أساليب التطبيق، الجدوى، الانتشار، وأشكال الديمقراطية النيابية، بالإضافة إلى المؤسسات الرئيسية الداعمة لها.
إقرأ المزيد