مقدمة
تعتبر الآيات القرآنية نبراسًا يضيء لنا دروب الحياة، وتحمل في طياتها معاني عميقة وهدايات جمة. ومن بين هذه الآيات، تبرز الآية الكريمة (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) كسراج منير، تدعونا للتأمل والتدبر في مفهوم الظلم وعواقبه الوخيمة. هذا المقال يهدف إلى استكشاف المعاني اللغوية للكلمات الواردة في الآية، وتفسيرها الإجمالي، وعرض أبرز التأويلات التي ذكرها العلماء في معنى الظلم المذكور.
دلالات مفردات الآية (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا)
لفهم الآية الكريمة بشكل أعمق، نبدأ بتوضيح معاني الكلمات الأساسية الواردة فيها من الناحية اللغوية، وذلك على النحو التالي:
- خاب: تعني ضاع سعيه، وفشل مسعاه، ولم يحقق ما كان يرجوه ويأمله. وتفيد الخسارة والحرمان من الوصول إلى الهدف المنشود.
- ظُلْمًا: هو تجاوز الحق والاعتداء عليه، ومخالفة العدل والإنصاف. وقيل هو وضع الشيء في غير موضعه الصحيح، أو التعامل معه في غير وقته المناسب.
هذا التوضيح اللغوي يمهد لنا الطريق لفهم أعمق لمعنى الآية في سياقها القرآني.
تفسير إجمالي للآية الكريمة (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا)
تأتي هذه الآية كجزء من الآية رقم (111) من سورة طه، والتي يقول فيها الله -عز وجل-:(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا). هذه الآية الكريمة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما قبلها، وتشكل معها وحدة متكاملة في المعنى والمغزى.
تتحدث الآية عن مشهد يوم القيامة، حيث تذل الوجوه وتخضع للحي القيوم، وهو الله الذي لا يموت، القائم بنفسه والمقيم لكل شيء. وفي ذلك اليوم، يخسر ويندم كل من لقي الله وهو يحمل وزر الظلم والإثم، ويتحمل تبعات أفعاله السيئة.
ذكر “الوجوه” في الآية هو كناية عن الإنسان كله، لأن الخضوع والخشوع يظهر غالبًا على الوجه. ثم يأتي الخبر بأن الظالم هو الخاسر الأكبر، وهو من يأتي يوم القيامة محملاً بما يسخط الله تعالى.
تأويلات العلماء في معنى الظلم الوارد في الآية
اختلف العلماء والمفسرون في تحديد المقصود بكلمة “ظُلْمًا” في الآية الكريمة، ويمكن تلخيص أبرز هذه التأويلات في ثلاثة أقوال:
الرأي الأول: الظلم هو الإشراك بالله
يرى جمهور المفسرين، وعلى رأسهم ابن عباس -رضي الله عنهما-، أن الظلم المذكور في الآية هو الشرك بالله -تعالى-. ويستندون في ذلك إلى قوله -تعالى- على لسان لقمان الحكيم وهو يعظ ابنه:(يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). فلقد وصف لقمان الشرك بأنه ظلم عظيم؛ لأنه اعتداء على حق الله في التوحيد والعبادة.
فالمشرك يظلم نفسه ظلمًا كبيرًا؛ لأنه يحرمها من حلاوة الإيمان، ويجعلها عرضة للعذاب الأليم في الآخرة، حيث لا تنفعها شفاعة ولا تغني عنها معذرة.
الرأي الثاني: المراد بالظلم هو مطلق الظلم
ذهب بعض العلماء إلى أن الظلم في الآية يشمل كل أنواع الظلم، سواء كان شركًا أو كفرًا أو معصية. فالآية تتناول كل ما يطلق عليه اسم الظلم، بما في ذلك الذنوب والمعاصي، وخاصة الكبائر منها.
كما يدخل في هذا المعنى ظلم العباد والتعدي على حقوقهم، وأكل أموالهم بالباطل، والإضرار بهم ماديًا أو معنويًا. وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من خطورة هذا النوع من الظلم، وبين أن عاقبته وخيمة يوم القيامة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:(أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ).
فكل من يأتي يوم القيامة وهو يحمل في ذمته شيئًا من الظلم، ولم يتب منه قبل لقاء الله، فهو خاسر لا محالة.
الرأي الثالث: الظلم هو ظلم الإنسان لنفسه
يرى العلامة الطاهر ابن عاشور أن الظلم المقصود في الآية هو ظلم الإنسان لنفسه. وهذا يشمل كل ما ذكر في التأويلين السابقين، فالشرك والمعاصي والتعدي على حقوق الآخرين، كلها صور من صور ظلم الإنسان لنفسه، لأنها تجلب له العذاب والهلاك في الدنيا والآخرة.
خلاصة
الآية الكريمة (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) تحمل في طياتها تحذيرًا شديدًا من مغبة الظلم وعواقبه الوخيمة. فالظلم بجميع صوره وأشكاله، سواء كان شركًا بالله أو تعديًا على حقوق العباد أو إيذاء للنفس، هو سبب للخيبة والخسران في الدنيا والآخرة. فعلى المسلم أن يجتنب الظلم بكل ما أوتي من قوة، وأن يسعى إلى تحقيق العدل والإنصاف في جميع جوانب حياته.