ابن زيدون: قامة شامخة في سماء الشعر الأندلسي

نبذة عن حياة ابن زيدون الشاعر الأندلسي، مولده ونشأته، مع التطرق إلى أساتذته ومكانته الأدبية وبيئته السياسية والثقافية وعلاقته بالخلفاء وأشهر رسائله وشعره وعلاقته بولادة بنت المستكفي ووفاته

مقدمة

أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي الأندلسي، أحد أبرز الشعراء الذين أنجبتهم الأندلس. تميز شعره بالتنوع، حيث كتب في مختلف الأغراض الشعرية، من الغزل الرقيق إلى الرثاء والفخر، بالإضافة إلى وصف الطبيعة الخلابة. ولا شك أن نشأته في مدينة قرطبة، المشهورة بجمالها الطبيعي، كان لها دور كبير في إبداعه في هذا المجال. كما تميز شعر ابن زيدون بطول القصائد وتعدد الفنون الشعرية التي استخدمها، مما جعله من ألمع شعراء عصره.

ميلاد ابن زيدون

ولد ابن زيدون في خريف سنة 394 هـ (الموافق 1003 م) في أحد أحياء مدينة قرطبة. تعود جذوره العربية الأصيلة إلى قبيلة بني مخزوم، التي كان لها مكانة مرموقة في الجاهلية والإسلام. كان أجداده قد قدموا من المغرب، وكان بيت بني زيدون من أعرق بيوت قبيلة مخزوم، يتمتع بالعز والمكانة الرفيعة والثقافة والأدب. كانت عائلته من جهة الأب والأم من أبرز العائلات الأندلسية. كان والده رجلاً ثرياً ومن وجهاء الأندلس، يتمتع بالعلم والمعرفة باللغة والآداب، وكان فقيهاً وقاضياً له شأن كبير، وصاحب رأي مسموع. كان قاضي القضاة آنذاك، أحمد بن محمد بن ذكوان، يستشيره ويراجعه في فتاويه وأحكامه، وكان موضع ثقة لغيره من القضاة. يُقال إن أبا بكر، وهي كنيته، توفي في البيرة بالقرب من غرناطة، حيث كان متوجهاً إلى هناك لتفقد أملاكه، ودفن فيها.

تكوين ابن زيدون وتطلعاته

تولى جدّه لأمه كفالة ابن زيدون بعد وفاة والده عندما كان في الحادية عشرة من عمره. كان الجدّ شيخاً ملتزماً وحازماً، فنشأ ابن زيدون في كنفه ورعايته. كان وحيد والديه، وبعد وفاة والده، أصبح وحيد أمه، التي دللته كثيراً. كان لهذا الدلال، بالإضافة إلى نفسه الحساسة وحبه للمرح، الأثر الأكبر في حياته.

نشأ ابن زيدون في أحضان جدّه وتدليل والدته، التي كانت تربطه بها علاقة مميزة جداً، خاصةً أنه كان وحيدها. كان لهذه العلاقة الأثر الكبير في تكوين شخصيته، فنشأ معجباً بنفسه مغتراً بشبابه ووسامته. كان تأثير والدته عليه أقوى من تأثير جدّه. كانت هذه الحياة المرفهة التي عاشها ابن زيدون سبباً في انصرافه إلى اللهو والمتعة، خاصةً أن العصر الذي عاش فيه كان عصر انفتاح ومجون. أُغرم ابن زيدون بالفنون والموسيقى والغناء، وكان لكل هذه الظروف التي أحاطت بنشأته أثر بالغ في حياته، فأصبح شاباً معتزاً بثرائه وبحسبه ونسبه اعتزازاً كبيراً، وطموحاً ليس لطموحه حد، وكان طموحه هذا سبباً في دخوله السجن فيما بعد.

علماء وأساتذة ابن زيدون

كان والد ابن زيدون معلمه الأول، فقد كان متبحراً في علوم اللغة العربية وآدابها، فعلم ولده منذ صغره وأحضر له الأساتذة الذين علموه مختلف العلوم. يقول الدكتور شوقي ضيف: “ونظن ظناً أنّ ابن زيدون لزم صديق أبيه عباس بن ذكوان، وأفاد من علمه وفقهه، فقد كان عالم قرطبة الأول في عصره، وامتدت حياته بعد أبيه إلى سنة 413هـ”. كما تتلمذ ابن زيدون على يدي أبي بكر مسلم بن أحمد، وهو ابن أفلح النحوي، الذي كان عالماً في اللغة والأدب ورواية الشعر. كان ابن زيدون مقبلاً على العلم راغباً فيه، فأخذ ينهل من العلم من هنا وهناك، فكان يحضر الدروس في الجوامع ويرتاد دور الكتب، ويتردد على جامعة قرطبة الكبيرة ليحضر الدروس التي كانت تُلقى فيها. كانت قرطبة في ذلك الحين مركزاً للعلم والعلماء، مما ساعد ابن زيدون على الإقبال على العلم والرغبة في تحصيله. لم يذكر الذين عاصروا ابن زيدون أسماء أساتذة تولوا تعليمه بالترتيب.

مكانة ابن زيدون الأدبية

كان ابن زيدون من أبرع وأقدر شعراء العصر الذي عاشوا فيه، لذا أُطلق عليه لقب “بحتري المغرب” تشبيهاً له بالشاعر البحتري، وذلك لتميّزه في موهبته وتميز شعره بالسهولة والعذوبة. قال المقرّي مادحاً له: “من لبس البياض وتختم بالعقيق وقرأ لأبي عمرو وتفقه للشافعي وروى شعر ابن زيدون فقد استكمل الظرف”. وجاء رأي علماء الغرب مثل رأي علماء الشرق في ابن زيدون بشأن منزلته، فقال آنخل جنثالث بالنثيا: “أهم شعراء قرطبة في ذلك العصر هو أبو الوليد أحمد بن زيدون المخزومي”. كان لابن زيدون منزلة مرموقة في قرطبة لما امتاز به من تفوق ونبوغ وعلم غزير وقدرة على التعبير عن نفسه ومشاعره وأفكاره.

البيئة التي عاش فيها ابن زيدون

الأوضاع السياسية

عاصر ابن زيدون الاضطرابات التي حدثت في الأندلس، وشهد تداعي الخلافة الأموية فيها، التي امتد حكمها للأندلس منذ عام 756 م حتى عام 1030 م، حيث تأسس الحكم على يد عبد الرحمن الداخل، وهو ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، وبعده توالى على الحكم عدد من الأمراء، فبلغت الدولة الأموية أوج عزها وعظمتها في فترة حكم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد، الذي لُقّب بالناصر لدين الله، وهو أول من سُمي بأمير المؤمنين، وقد دام حكمه خمسين سنة، ثمّ تولى الحكم بعده ولده الذي سار على نهج أبيه إلى حين وفاته 976 م، ثمّ توالى على الحكم عدد من الحكام لإمارتها، وانتهى حكم الأمويين في الأندلس ليبدأ بعده حكم ملوك الطوائف.

الحياة الثقافية

شهدت الأندلس في عصر ابن زيدون نهضة حضارية وفكرية في كافة العلوم. كانت عواصم الدول الأندلسية وعواصم المشرق الإسلامي تتنافس فيما بينها في مجال الشعر. أُلّفت في تلك الفترة عدد كبير من الكتب، قياساً بالفترة الزمنية التي أُلّفت فيها. كان لعلماء وحكام الأندلس فضل في ذلك، فمن أهم الحكام الذين لعبوا دوراً مهماً في ذلك الازدهار الفكري عبد الرحمن الناصر، والحكم المستنصر والمنصور بن أبي عامر. كان أهل الأندلس أنفسهم يرغبون في العلم ويحبون المعرفة، وكان ملوك الطوائف يعملون على استقدام العلماء لتصبح دولهم بمستوى فكري أعلى من مستوى الممالك الأخرى.

الحياة الأدبية

كان ابن زيدون من أشهر أدباء وشعراء الأندلس، خاصة في عهد ملوك الطوائف. كان العرب في تلك الحقبة من الزمن، إذا فتحوا بلداً من البلدان، لم يكتفوا بفتحه سياسياً، بل فتحوه لغوياً وجعلوا اللغة العربية تحل محل لغته الأصلية، كما علّموا أهله علوم القرآن الكريم، ورغبوا أبناءه بأدبهم وشعرهم حتى أعجبوا به أشد الإعجاب، فأصبحت اللغة العربية هي اللغة المسيطرة والرئيسية في الأندلس والأقاليم المجاورة، فصار أهل هذه البلاد يعبرون بها عن مشاعرهم وعواطفهم، ويقلدون نماذجها المشرقية، وينقلون الكتب الأدبية إلى بلادهم حال ظهورها في البلاد المشرقية.

بلغت الحياة الأدبية أوج ازدهارها في عهد ملوك الطوائف، فقد كان كل ملك يجمع حوله عدداً من الأدباء والشعراء للتفاخر ومنافسة من حوله من الملوك والسلاطين، فظهرت أسواق النثر والشعر وتعددت هذه الأسواق، وصار الكتاب يبتدعون أساليب جديدة لإظهار مواهبهم. بالغ ملوك الطوائف في تكريم الشعراء وبذل المكافآت والجوائز لهم، مما جعلهم يتنافسون في مدحهم فبرزت مواهبهم وأبدعوا، فنهض الشعر وازدهر إلى أقصى حد ولم يقتصر قول الشعر على فئة الشعراء فحسب، بل عم حتى طال كافة طبقات المجتمع الأندلسي.

صلة ابن زيدون بالخلفاء

عاش ابن زيدون في عصر ملوك الطوائف الذي ضعُفت فيه قوّة دولة الأندلس وتشتت وتقلصت. بعد سقوط الدولة الأموية نتيجة ضعفها وانحلالها، قامت على أنقاضها دويلات منها قرطبة، التي تولى إمارتها أبو الحزم ابن جهور، فكان ابن زيدون من وزرائه المقربين، ثم أوقع بينهما الوشاة فتغيرت العلاقة وذهب الود، فقام ابن جهور بسجنه، لكنه استطاع الفرار من السجن بعد أن مكث فيه سنة ونصف، ثم لجأ إلى ولي عهد ابن جهور، وأدخله بوساطة بينه وبين ابن جهور فعفى عنه. بعد أن توفي الأمير أبو الحزم سنة 435 هـ، تولى ابنه أبو الوليد الإمارة فكان ابن زيدون صديقاً مقرباً له فولاه وزارة، لكنه سرعان ما عزله بعد أن أصغى إلى الوشاة من أعداء الشاعر ومنافسيه، ثم عاد ورضي عنه بعد عدة أعوام، لكن ابن زيدون هجر الأمير وانتقل إلى إشبيلية حيث بنو عباد.

بعد وفاة أبو القاسم بن عباد، الذي حكم إشبيلية منذ عام (414هـ) حتى عام (433هـ)، تولى الحكم ابنه المعتضد بن عباد، وكان شاعراً يحب الشعر، فاجتمع في بلاطه عدد كبير من الشعراء كان ابن زيدون زعيماً لهم، فأصبح صديقاً للأمير وولاه وزارته. لما توفي المعتضد سنة 461 هـ، تولى بعده ابنه المعتمد، وكان من أصدقاء ابن زيدون، فأبقى عليه في منصبه، واستطاع الأمير فتح قرطبة، وقد ساعده ابن زيدون في ذلك بحنكته السياسية. كان لكلّ الأحداث التي حصلت حينها في البيئة التي نشأ فيها ابن زيدون أثر واضح في شعره، مما جعله يتربع على عرش زعامة الشعر بلا منافس.

مراسلات ابن زيدون

الرسائل الفكاهية

كتب ابن زيدون رسالة فكاهية وهو في سجنه، نقلتها ولادة على لسانها إلى ابن عبدوس، الذي كان ينافسه على حبها، وقد جاء في هذه الرسالة هجاء وتشفٍ وسخط وحقد، أظهرت قوة وبأس نفس ابن زيدون، الذي تأثر فيها برسالة التربيع والتدوير للجاحظ. شرح هذه الرسالة الأديب ابن نباتة سنة 768 هـ في كتاب سماه: “سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون”.

الرسائل الجادة

الرسالة الجدية هي رسالة أرسلها ابن زيدون إلى حاكم قرطبة ابن جهور بعد سقوط الخلافة الأموية في الأندلس سنة 422 هـ، طالباً الرحمة منه مستعطفاً إيّاه ليطلق صراحه من السجن الذي وضعه فيه ظلماً نتيجة الدسائس والمؤامرات. أجمع القدماء والمعاصرون على أن هذه الرسالة تعتبر من أهم الرسائل الأدبية في تاريخ الأدب العربيّ، لذا لاقت الكثير من التقدير والاهتمام قديماً وحديثاً. من مظاهر تقدير الأقدمين لها أن بعض الأدباء اقتدى بها وقلدها، كما قلد هذه الرسالة محي الدين بن ظاهر، وصلاح الدين الصفدي. من مظاهر الاهتمام بتلك الرسالة أيضاً قديماً وحديثاً ترجمتها إلى بعض اللغات وكثرة الشارحين لها، هذه ولم تزل تلك الرسالة محط اهتمام للدارسين حتى الآن.

إبداعات ابن زيدون الشعرية

كتب ابن زيدون الكثير من قصائد المدائح في أبي الحزم بن جهور، وأبي الوليد، وفي المعتضد، وابنه المعتمد، كما مدح بعض أمراء الطوائف، وكتب الرثاء في أبي جهور وفي المعتضد وبعض أبناء الخاصة. لا يوجد في مدح ابن زيدون ورثائه تجديد، إذ كان يتناول المعاني المتداولة عند القدماء، مثل صفات الكرم والشجاعة والتقوى وجميع المعاني المعروفة عند شعراء المشرق. يمتاز شعره بالمبالغة في اللفظ والمعنى مقلداً في ذلك القدامى. شعره في الغزل مرتبط بولادة، وهو من نوع الغزل الصادق الذي ينبع عاطفة وحنيناً وشكوى وعتاباً وألماً، ويبدو فيه ساخطاً على الوشاة حاقداً على الدهر.

يمتاز شعر ابن زيدون بشكل عام بالمبالغة بهدف التأثير في السامع لتحريك مشاعره، كما يظهر في شعره تأثره بالقديم بالرغم من أنه عاش في بيئة تختلف عن تلك التي عاش فيها المشارقة. سُمي ابن زيدون ببحتري المغرب لسببين، أولهما طول النفس، فقد جاءت قصائده في المدح والغزل طويلة، وثانيهما كثرة الزخارف الشعرية والصور البيانية والمحسّنات البديعية، فجاء شعره شبيهاً بشعر البحتري. رغم تأثر ابن زيدون بالمشارقة إلا أنه ظل محتفظاً بشخصيته المميزة في شعره واهتمامه بإبراز ذاته في أعماله الشعرية.

الأغراض الشعرية في شعر ابن زيدون

كان لابن زيدون في حياته ثلاث تجارب أثرت في تنوع شعره بشكل عميق، والتي عُدّت مصدراً لإلهام ابن زيدون في كل المواضيع التي عبر عنها. التجربة الأولى تمثلت بهيامه بولادة بنت المستكفي، أما الثانية فقد حدثت عند سجنه في عهد أبي الحزم بن جهور، إذ نتجت من معاناته في السجن العديد من الأبيات الشعرية التي كانت تتمحور حول العتاب والاستعطاف، أما التجربة الثالثة فقد حصلت معه حين كان قريبًا من الحكام بصفته وزيراً وسفيراً في الدولة، فمكانة ابن زيدون تلك جعلته ينظم أشعار المديح لأولي الأمر، والهجاء لأعدائه، كما اعتُبرت مصدراً لإخوانياته ومداعباته، ولما كتبه من قصائد الوصف.

أمثلة على الأغراض الشعرية:

  • الغزل: يقول في إحدى قصائده: “كم ذا أُريدُ وَلاَ أُرادُ؟ يا سوء ما لقِيَ الفؤادُ”.
  • العتاب: يقول في إحدى قصائده: “أيوحشني الزمان وأنت أنسي ويظلم لي النهارُ وأنت شمسي”.
  • الحنين والشوق: يقول في إحداها: “متى أبثّكِ ما بي يا راحتي وعذابي متى ينوبُ لساني في شرحه عن كتابي”.
  • الهجر: يقول في إحداها: “يا نازحًا وضميرُ القلب مثواهُ أنسَتْكَ دنياك عبدًا أنت دنياهُ”.
  • الفراق: يقول ابن زيدون في الفراق: “لحا اللهُ يومًا لستُ فيه بملتقِمُ حيَّاكَ مِن أجل النَّوى والتَّفرُّقِ وكيف يطيبُ العيشُ دُون مسرةٍ؟ وأيُّ سُرورٍ للكئيب المؤرَّق”.
  • المديح: كقوله: “ونهجك سبل الرُّشدِ في قمع منْ غوى وعدْلك في استئصال مَن جار واعتدى”.
  • الإخوانيات: كقوله ممازحاً أبا عبد الله البطليوسي: “أصِخْ لمقالتي.. واسمعْ وخذ فيما ترى.. أو دع وأَقْصِرْ بعدها أو زِدْ وطِرْ في إثرها أو قَع”.

ابن زيدون وولادة بنت المستكفي

يعود نسب ولادة ابنة المستكفي إلى بيت أموي عريق، فوالدها هو الخليفة المستكفي بالله الذي أجمع المؤرخون على أنه كان منغمساً في الملذات ومشهوراً بالبطالة وشرب الخمر، فكان توليه أمر المسلمين في قرطبة نقمة عليهم، وقد تزوج من أمة مسيحية حبشية قيل إنها أم ولادة، وعلى الرغم من عظمة أجداد ولادة إلا أنها كانت قد اكتسبت بعض صفات والديها.

عشق ابن زيدون في شبابه ولادة وشغفته حباً أيام خدمته لبني جهور، وتوثقت علاقته بها مدة من الزمن ونظم في حبها مجموعة من القصائد الرائعة، ثم ساءت العلاقة بينهما وهجرته ولادة فنظم قصائد مؤثرة يستعطفها بها، وكان ينافسه في حبها ابن عبدوس الذي تزوجته فيما بعد، وقد كانت ولادة سيدة عصرها وكانت أديبة وشاعرة واثقة من نفسها لدرجة الغرور، فطرزت بالذهب على ثوبها هذين البيتين:

أنا والله أصلُح للمعالِ * وأمشي مشيتي وأتيه تيها

وأمكِّنُ عاشقي من َصحنِ خدّي * وأُعطي قُبلتي من يَشتهيها

أحبت ولادة الوزير ابن زيدون أولاً، ثم انصرفت عن حبه إلى حب الوزير أبي عامر ابن عبدوس، وكان يلقب بالفأر، وفي هذا يقول ابن زيدون:

أكرِم بولاّدةَ علقاً لمعتلقٍ * لو فرقت بين بيطارٍ وعطارِ

قالوا أبو عامرٍ أضحى يلمُ بها * قلت الفراشةَ قد تدنو من النارِ

قصيدة النونية لابن زيدون

سبب كتابة القصيدة

كتب ابن زيدون هذه القصيدة لولادة بعد هروبه من السجن وأرسلها إليها يرجوها أن تحفظ الود وتظل على العهد، فتذكر أيام الوصال بينهما وتحسر عليها، وقد استخدم الشاعر في هذه القصيدة ألفاظاً معبرة عن حبه وعاطفته النبيلة، كما اختار الصور البيانية بمهارة لتعبر عن الأحوال النفسية التي عاشها، واستخدم فيها مُحسنات اللفظ والمعنى بكل إبداع فجاءت مناسبة لعواطفه وأحاسيسه.

الأسلوب الشعري في القصيدة

نظم ابن زيدون نونيته على وزن (بحر الكامل) الذي يعد من أهم البحور العربية لكثرة النظم فيه، والذي يمتاز بجرس واضح ينبعث من هذه الحركات الكثيرة الواضحة، وهو مناسب لقصيدة ابن زيدون التي تحتاج مساحة من الزمن للتعبير عن معانيها، أما القافية فهي مردوفة مطلقة وحرف الروي هو النون، وهو شبيه بروي معلقة ابن كلثوم التي مطلعها:

ألا هبّي بصحنكِ فأصبحينا * ولا تُبقي خُموَر الأندريناهذا ومع اختلاف غرضي القصيدة، فقصيدة عمرو في الفخر والحماسة وقصيدة ابن زيدون في الغزل.

بنى ابن زيدون قصيدته هذه بأسلوب جميل رقيق وهادئ مختومة بحرف النون الذي من مميزاته أنه يعطي في الوقف نبرة حزن مع جرس مصحوب بالحنين، كما أنه من الحروف الذلاقة، وله جرس لطيف ونغم موسيقي عذب في ترتيب القوافي.

آراء النقاد حول القصيدة

تحدث النقاد كثيرًا عن هذه القصيدة، فمنهم من مدحها ومنهم من ذمها، لكن من المؤكد أنها من أروع قصائد الغزل الوجداني، ومما يطلق عليه السهل الممتنع، حيث لا يصعب لمن سمع الشطر الأول أن يكمل الشطر الثاني، من خلال الجناس والطباق اللذين زادا القصيدة روعة على روعة، إضافةً إلى الألفاظ المتضادة.

معاني القصيدة

استخدم ابن زيدون في قصيدته ألفاظاً ذات جرس رنان هادئ لتعبر بصدق عن موضوعها، ولكنها في نفس الوقت ألفاظ جزيلة متينة، كما أن لغتها مثل لغة قصائد الشعراء السابقين، لكن كثيراً من النقاد انتقد تكرار ابن زيدون للمعاني مع اختلاف الألفاظ.

هذه بعض الأبيات من هذه القصيدة:

أَضحى التَنائي بَديلاً مِن تَدانينا * وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا

أَلّا وَقَد حانَ صُبحُ البَينِ صَبَّحَنا * حَينٌ فَقامَ بِنا لِلحَينِ ناعينا

مَن مُبلِغُ المُلبِسينا بِاِنتِزاحِهِمُ * حُزناً مَعَ الدَهرِ لا يَبلى وَيُبلينا

رحيل ابن زيدون

بعد أن هرب ابن زيدون من السجن، اتصل بوالي إشبيلية المعتضد، فعاش في كنفه، وولاه وزارة وفوض إليه شؤون مملكته، وظل في بلاطه في إشبيلية معززاً مكرماً حتى توفي المعتضد وتولى ابنه المعتمد على الله الحكم، فظل إلى جانبه ومات في أيام حكمه في صدر رجب سنة ثلاث وستين وأربعمئة بمدينة إشبيلية ودفن بها، وقال ابن بشكوال إنه توفي سنة خمس وأربع مائة، وكانت وفاته بالبيرة وسيق إلى قرطبة ودُفن بها رحمه الله.

المصادر

  • “ابن زيدون شاعر الاندلس وأديبها”،www.islamstory.com/، 2016-5-2016
  • صلاح الدين محمد (2016)،شرح رسالة ابن زيدون بين الصفدي ولبن عليم، الخرطوم: جامعة أمدرمان الاسلامية، صفحة 12-10.
  • تحسناء أقداح (2013)،”النرجسية وتجلياتها في غزل ابن زيدون”،مجلة جامعة دمشق، العدد 2+1، المجلد 29، صفحة 191،192،194.
  • فوزي خضر (2004)،عناصر الإبداع الفني في شعر ابن زيدون، الكويت: مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، صفحة 15،16.
  • ثيوسف فرحات (1994)،ديوان ابن زيدون(الطبعة الثانية)، بيروت: دار الكتاب العربي، صفحة 16،17، 10-7.
  • زليخة دقيش (2014-2013)،بناء القصيدة الغزلية األندلسية عصر ملوك الطوائف “نونية إبن زيدون”، الجزائر: جامعة العربي بن مهيدي أم البواقي ، صفحة 9،8،10،11.
  • عبد الرزاق الشريف (2010)،”نونية ابن زيدون دراسة بلاغية”،مجلة اللغة العربية، العدد 24، المجلد الأول، صفحة 781،780.
  • عبد الحليم الهروط، محمود عبد الرحيم (2007)،”الرسالة الجدية لأبي الوليد أحمد بن زيدون”،مجلة كلية التربية الأساسية، العدد 50، صفحة 60.
  • فوزي خضر (2004)،عناصر الإبداع الفني في شعر ابن زيدون، الكويت: مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، صفحة 30،16.
  • أحمد سعيد (1436-2-4)،”ملامح الإبداع في الشعر الأندلسي ، قصيدة ابن زيدون أضحى التنائي بديلا من تدانينا، نموذجا”،مجلة جامعة طيبة: للآداب والعلوم الإنسانية، العدد 9، المجلد 5، صفحة 680-676.
  • خدام آسية، علو سميّة (2018-2017)،الصورة الشعرية عند ابن زيدون، صورة المرأة في نونيته إنموذجاً، الجزائر: جامعة الدكتور مولاي الظاهر، صفحة 46.
  • نايف محمود (2010)،”المعري وابن زيدون، دراسة موازنة”،آداب الفراهيدي، العدد 4، صفحة 98+67+96.
  • “أضحى التنائي يديلا من تدانينا”، //www.aldiwan.net
Total
0
Shares
اترك تعليقاً
المقال السابق

الأصمعي: عالم اللغة والشعر

المقال التالي

هوميروس: نظرة في حياة وأعمال الشاعر الإغريقي

مقالات مشابهة

أجمل قصائد الحب والغزل العربية

تُعتبر أشعار الحب والغزل من أهم روائع الأدب العربي، حيث تُعبر عن مشاعر الحب والعشق بأسلوبٍ فني رقيق وجميل. ستجدون هنا مجموعة من أشهر قصائد الحب والغزل التي سحرّت قلوب الشعراء والمُتذوقين على مرّ العصور.
إقرأ المزيد