افتتاحية
نحمد الله، ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
التذكير بتقوى الله
أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله للأولين والآخرين. فتقوى الله هي سبيل الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة. قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا). فلنجعل التقوى زادنا، والخوف من الله رائدنا. إن التقوى هي العاصم من الفتن، والمنجي من المهالك، والموصل إلى رضا الرحمن. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
التأمل الأول
الله هو الأول والآخر، الظاهر والباطن، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. كتب الفناء على كل خلقه، وتفرد بالبقاء. هو الحي الذي لا يموت، وكل نفس ذائقة الموت. قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ).
أيها الناس، إذا نزل الموت، لا يستطيع أحد أن يؤخر أجله، أو يقدمه لحظة واحدة. فالدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء. فمن زرع خيراً حصد خيراً، ومن زرع شراً حصد شراً. كم من أناس كانوا بالأمس معنا، واليوم قد رحلوا عنا. كانوا في غفلة عن ذكر الله، وفي انشغال بالدنيا، حتى جاءهم الموت بغتة، فندموا على ما فرطوا في جنب الله. قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
الموت موعظة للمتفكرين، وعبرة للمعتبرين. ذكر أن ملك الموت زار داود عليه السلام وسأله داود مستنكراً: “أتيتني ولم أستعد بعد؟” فأجابه ملك الموت: “يا داود، أين فلان قريبك؟ أين فلان جارك؟” فكانت لهم فيه عبرة. فلنجدد العهد مع الله، ولنخلص العمل له، ولنحرص على الطاعات، ولو كانت قليلة، فالقليل الدائم خير من الكثير المنقطع. لنبتعد عن الغفلة والزلات، ولنجاهد أنفسنا على الطاعة، فالموت حق، وهو نهاية هذه الحياة الدنيا، وبداية الحياة الآخرة.
تَزَوَّدْ مـن التقـوى فإنك لا تـدري ***
إذا جَنَّ ليلٌ هـل تعيشُ إلى الفجرِ
فكم من فَتًى أمسى وأصبح ضاحكاً ***
وقد نُسِجَـْت أكفانُه وهو لا يدرِي
وكم من صغارٍ يُرْتَجَى طولُ عمرهم ***
وقد أُدخلت أجسامُهم ظلمـةَ القبرِ
وكم من عروسٍ زينوهـا لزوجهـا ***
وقد قُبضت أرواحُهـم ليلةَ القدرِ
وكم من صحيحٍ مات من غير علةٍ ***
وكم من عليلٍ عاش حيناً من الدهرِ
للموت سكرات، تختلف باختلاف حال العبد. المؤمنون يطمئنون، والكافرون يعذبون. قال تعالى في وصف المؤمنين: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ). وقال في وصف الكافرين: (وَلَو تَرى إِذِ الظّالِمونَ في غَمَراتِ المَوتِ وَالمَلائِكَةُ باسِطو أَيديهِم أَخرِجوا أَنفُسَكُمُ اليَومَ تُجزَونَ عَذابَ الهونِ بِما كُنتُم تَقولونَ عَلَى اللَّـهِ غَيرَ الحَقِّ وَكُنتُم عَن آياتِهِ تَستَكبِرونَ).
فمن أراد لقاء الله، فليعمل صالحاً، وليخلص في عبادته. قال تعالى: (فَمَن كانَ يَرجو لِقاءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلًا صالِحًا وَلا يُشرِك بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
التأمل الثاني
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فقد فاز المتقون. لا خوف يضاهي خوف الموت. لنأخذ العبر من الصحابة والسلف. ذكر أن أبا هريرة رضي الله عنه بكى في مرضه، فقيل له: “ما يبكيك؟” فقال: “أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي على بعد سفري، وقلة زادي، وأنا أصبحت في صعود مهبط على جنة ونار، ولا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي”.
ولما حضرت المأمون الوفاة بكى وقال: “اللهم يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه”. الموت لا يفرق بين غني وفقير، ولا بين حاكم ومحكوم، ولا بين صغير وكبير. ولا تدري نفس بأي أرض تموت. فلنكن على استعداد دائم، فالعمر لحظة. ونهاية العبد بعد موته وحيداً في قبره، إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار.
الدعاء والرجاء
إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما. قال تعالى: (إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم هون علينا سكرات الموت، ونسألك يا الله النجاة من النار والعفو عند الحساب يا خالق الموت ويا سامع الصوت رب العالمين. اللهم أحسن خاتمتنا، اللهم اجعل قبورنا روضة من رياض الجنة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصادر
- صحيح مسلم
- البداية والنهاية لابن كثير