تمهيد
الحمد لله الذي بعث نبيه رحمة للعالمين، وهداية للسالكين، وأسوة للمقتدين. أرسله بالبشارة والنذارة، ودعوة إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا. هو خير الناس لأهله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
توصية بتقوى الله
إخوة الإيمان، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي خير زاد ليوم المعاد. اتقوا الله في السر والعلن، واعملوا الصالحات، وابتعدوا عن المعاصي والمنكرات. يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71]. سنتناول في هذه المقالة جوانب من حياة النبي ﷺ وكيف كان يتعامل مع زوجاته وأهل بيته.
القسم الأول
أيها المسلمون، إن حياة النبي محمد ﷺ هي نبراس لنا في كل شؤون حياتنا، خاصة في تعامله مع أسرته. كان خير الأزواج، وأرحمهم بزوجاته. وكيف لا يكون كذلك وهو القائل: “خَيْرُكم خَيْرُكم لِأَهْلِه، وأَنا خَيْرُكم لِأَهْلي” [رواه شعيب الأرناؤوط في تخريج المسند].
كان النبي ﷺ الزوج المحب، الناصح، الرفيق. كان يمازحهن ويضحك معهن في الأفراح، ويواسيهن في الأتراح. كان يستمع إلى شكواهن بصبر، ولا يؤذيهن قولاً أو فعلاً. لم يرد أنه ضرب امرأة قط، بل كان يتغاضى عن الأخطاء ويثني على الصفات الحسنة.
لقد أوصانا النبي ﷺ بحسن معاملة الزوجات، فقال: “لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إنْ كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ، أَوْ قالَ: غَيْرَهُ” [رواه مسلم في صحيح مسلم].
وعندما سُئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن أخلاق النبي ﷺ في بيته، قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أَلْيَنَ الناس، وأكرم الناس، كان رجلاً من رجالكم، إلَّا انه كان ضحَّاكًا بسَّامًا، كان يكون في مهنة أهله، يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويخدم نفسه، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة”.
على الرغم من مسؤولياته الكبيرة كقائد للأمة، كان ﷺ يساعد زوجاته في شؤون المنزل، مما يعزز المودة والرحمة بين الزوجين. ذات مرة، بينما كان النبي ﷺ جالسًا مع عائشة رضي الله عنها، جاء خادم زينب بنت جحش رضي الله عنها بطعام، فغارت عائشة وكسرت الصفحة. لم يغضب النبي ﷺ، بل جمع الطعام وقال: “غارت أُمّكم”، مراعيًا لمشاعرها.
يذكر أن عائشة رضي الله عنها قد رفعت صوتها على النبي ﷺ في بعض الأمور، فدخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه غاضبًا، لكن النبي ﷺ دافع عنها. وبعد خروج أبيها، مازحها النبي ﷺ لتخفيف حدة الموقف. وقد ورد أن زوجات النبي ﷺ كن يراجعنه في بعض الأمور، لكنه كان يقابل ذلك بالحلم والعفو.
فقد جاء في الحديث أن زوجة عمر بن الخطاب قالت له: “فَوَاللَّهِ إنَّ أزْوَاجَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليُرَاجِعْنَهُ، وإنَّ إحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ اليومَ حتَّى اللَّيْلِ، فأفْزَعَنِي، فَقُلتُ: خَابَتْ مَن فَعَلَ منهنَّ بعَظِيمٍ، ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَدَخَلْتُ علَى حَفْصَةَ، فَقُلتُ: أيْ حَفْصَةُ أتُغَاضِبُ إحْدَاكُنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اليومَ حتَّى اللَّيْلِ؟ فَقالَتْ: نَعَمْ” [رواه البخاري في صحيح البخاري].
كان النبي ﷺ يواسي زوجاته ويجبر بخاطرهن. عندما بكت صفية بنت حيي رضي الله عنها لأن حفصة رضي الله عنها عيرتها بأنها ابنة يهودي، واساها النبي ﷺ وقال لها: “قولي: أنا زوجي محمد، وأبي هارون، وعمي موسى”. ونصح حفصة بتقوى الله. كان ﷺ يحل المشاكل بحكمة ويستشير زوجاته في أموره. لقد أخذ بمشورة أم سلمة رضي الله عنها في صلح الحديبية، وكان لرأيها أثر عظيم في الصحابة.
إخواني، كانت سيرة النبي ﷺ مع أهله عظيمة في كل جوانبها. إنه خير قدوة للأزواج في كيفية التعامل مع زوجاتهم. وهو القائل: “اسْتَوْصُوا بالنِّساءِ؛ فإنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِن ضِلَعٍ، وإنَّ أعْوَجَ شَيءٍ في الضِّلَعِ أعْلاهُ، فإنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وإنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أعْوَجَ، فاسْتَوْصُوا بالنِّساءِ” [رواه البخاري في صحيح البخاري].
إن بيت النبوة لم يخل من النزاعات التي تحدث بين الأزواج، فكانت نساؤه يشكون إليه قلة العيش، وكان ﷺ يتغاضى عن هذه الأمور ويركز على محاسنهن. فعلى الأزواج الاقتداء بالرسول الكريم في احتواء الخلافات.
ومن مظاهر محبته ﷺ لزوجاته أنه كان يشاركهن في الأكل والشرب، فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كُنتُ أشرَبُ، وأَنا حائضٌ، وأُناولُهُ النَّبيَّ فيَضعُ فاهُ على موضِعِ فيَّ، فَيشرَبُ وأتعرَّقُ العِرقَ وأَنا حائضٌ، وأُناولُهُ النَّبيَّ، فيضَعُ فاهُ على مَوضِعِ فيَّ” [رواه الألباني في صحيح النسائي].
وكان يخرج معهن للتنزه، مما يزيد المحبة بينهما. كان ﷺ يقابل جفوتهن بالبشاشة، وغيرتهن بالحلم، ويعطيهن حقهن من التقدير والاحترام. لقد كان نعم الزوج لهن، ويتغاضى عن زلاتهن وأخطائهن.
كان ﷺ يوجههن نحو الصواب ويعالج غيرتهن. كالموقف الذي كسرت فيه عائشة رضي الله عنها صفحة الطعام، فطلب منها أن ترد مثلها. وذات يوم قامت حفصة وعائشة بمطالبته بأن يشتري لهن ذهبًا وفضةً، فسمع أبو بكر رضي الله عنه صوتهن، فقال للنبي ﷺ أن يخرج إلى الصلاة وأن يحثو هو في وجوههن التراب، فقابل ذلك بأعظم الأخلاق، فوصفه ربه بأنه على خلق عظيم.
القسم الثاني
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له العاقبة في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نبيه المرتضى ورسوله المجتبى، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اهتدى.
إخوة الإسلام، كان النبي ﷺ أحسن الناس خلقًا مع أهله، يقوم بخدمتهن، ويساعدهن في أعمال البيت، ويتحمل أخطائهن، ويتجاوز عن زلاتهن، ويصبر على ذلك ويلاطفهن.
لقد أخبر عن نفسه أنه خير الناس لأهله، وأن خير الناس من كان خيرًا لأهله. كان النموذج الأكمل في كيفية تعامل الإنسان مع زوجاته، فقد كان بشرًا من البشر، ويحدث في بيته ما يحدث في أي بيت من بيوت الناس، وقد بينت لنا زوجاته طريقته في التعامل معهن، ونقل لنا أصحاب السير والسنن ذلك في كتبهم.
فلنصلِ على نبينا محمد ولنتأسى بأخلاقه.
الدعاء
اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إن نسألك صلاحًا لأحوال الجميع، وأن تديم المحبة بين الأزواج.
اللهم أكرمنا وارزقنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إمامًا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلوا على نبيكم محمد.
عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
المصادر
- سورة الأحزاب، آية:70-71
- رواه شعيب الأرناؤوط، في تخريج المسند، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:12/36، صحيح.
- إبراهيم العجلان (3-8-2008)،”هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – مع زوجاته”،الألوكة.
- رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:1469، صحيح.
- رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عمر بن الخطاب، الصفحة أو الرقم:2468، صحيح.
- رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:3331، صحيح.
- سعد الخثلان (8-12-2016)،”تعامل الرسول –صلى الله عليه وسلم- مع أسرته”،ملتقى الخطباء.
- رواه الألباني، في صحيح النسائي، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:281، صحيح.
- راغب السرجاني (12-4-2010)،”تعامل الرسول مع زوجاته”،قصة الإسلام.
- محمد المكي الناصري (1985)،التيسير في أحاديث التفسير(الطبعة 1)، بيروت:دار الغرب الإسلامي، صفحة 262، جزء 6.
- عائض القرني،دروس الشيخ عائض القرني، صفحة 8، جزء 209.
- صالح المغامسي،معالم بيانية في آيات قرآنية، صفحة 2، جزء 2.
- محمد العثيمين،اللقاء الشهري، صفحة 15، جزء 76.