المحتويات
افتتاحية: نفحات الصباح في روضتنا
عبر أجيال متعاقبة، توارثنا هذه الأرض، التي تنشر الجمال في كل زاوية، وتضفي السكينة على قلوب كل من يمر بها. تتجه الأنظار إليها بلهفة، حيث اللون الأخضر الزاهي الذي يسطع، ورائحة الفجر التي تمتزج بأجمل الروائح العطرة، وتغرس في الروح جمالاً لا يمحى. هذا كله يجعل من منظر هذه الأرض تحفة فنية فريدة، وعطرها يجعلها مكانًا استثنائيًا لا يشبهه أي مكان آخر، وكأنها قطعة نادرة، وجدت لتكون هنا فقط. كيف لا، وقد اشتراها جدي واعتنى بها أبي، وها أنا ذا أواصل المسيرة.
صلب الحديث: خيرات أرضنا الدائمة
أرضنا ليست مجرد أرض عادية، بل هي قطعة فنية صنعتها يدا جدي المتواضعتان، اللتان تقطران عرقًا بعد يوم طويل من العمل المثمر. يدا عرفتا قيمة الأرض، فأحبتاها واهتمتا بها ورعتاها أفضل رعاية، حتى أصبحت بستانًا أخضرًا واسعًا يمتد على مرمى البصر. مهما زرعنا في هذه الأرض، نجدها تنبت بسخاء، وكأنها تكافئنا على الحب والجهد الذي بذلناه من أجلها.
في كل يوم في هذه الأرض، يتكرر ذلك المشهد الذي يبدأ بأيدي المزارعين الذين يعشقون الحياة، فنجدهم يقبلون عليها برضا، يحيطونها بأيديهم بحنان، ويمسحون ترابها بعطف. يستخدمون الأدوات الزراعية اللازمة لتجهيزها، ثم بفأس صغير يصنعون حفرًا صغيرة في الأرض لتعبئتها بالبذور، ثم يغطونها بالتراب من جديد. وبعد كل حفرة، يبدأ سطر جديد على هذه الأرض، لنقوم بالعملية نفسها.
وبالفأس ذاته، يحيطون الأشجار التي زرعت على حافة هذه الأرض وفي جزء منفصل منها؛ ليتمكنوا من ريها جيدًا؛ لتنمو بسرعة. هذه الأشجار تحظى بعناية خاصة، فتقلم أغصانها وتهذب، ويوضع السماد حولها بين الحين والآخر، لتحافظ على جمالها وتغدق علينا بثمارها المتنوعة: تين وزيتون وعنب وتفاح وموز وغيرها. وفي وضح النهار، نستظل بظلها البارد، الذي يضفي على يومنا نكهة خاصة. هذه الأشجار تصافح الهواء بأغصانها العالية الطويلة؛ لتمتص ثاني أكسيد الكربون، وتنشر بين أنفاسنا هواءً منعشًا نقيًا مليئًا بالأكسجين.
لقد استطاعت هذه الأرض بطقوسها أن تمنح الحياة طعمًا فريدًا، كيف لا وهي قد تركت بصمة في حياة كل من مر بها. يبدأ اليوم بأغاني المزارعين التي تعد تراثًا يتوارثه جيل بعد جيل، هذه الأغاني التي تبث في أرواحهم الجد والنشاط، وتحفزهم على العمل طوال اليوم بحيوية لا تشعرهم بالملل أبدًا. وما للأرض هذا الحب كله إلا أن تنبت وتورق وتخضر، فترسم بين ثناياها لوحة جميلة عميقة لفنان بارع، لوحة رسمت بأجمل الألوان وأزهىها، مما جعلها تحفة متقنة، تجعل الناظر إليها يسبح الله كثيرًا، ويحمده على هذه النعمة العظيمة، نعمة تدل على حسن خلقه، وعظيم آياته في الخلق القويم.
أما عن منظر هذه الأرض صباحًا، هذا المشهد الذي يفوح بعبير الفجر، مشهد لا يغيب عن ذاكرة من يراه أبدًا، يأخذك للحظة برائحة الطيب، ولحظة أخرى بمنظر الأعشاب الخضراء التي تزين الأرض في الربيع. هذه الأعشاب تحيط بالزهور الملونة التي تملأ المكان، فمنها الأبيض والأحمر والزهري، لكل واحدة منها رائحة وشكل يميزها عن الأخرى. هذا المنظر الربيعي الأخضر يجعل المكان وجهة دائمة للزوار ليستمتعوا بالمناظر التي تشفي النفوس والأرواح، وتبث فيها الحياة والأمل بحياة أكثر جمالًا وراحة واطمئنانًا، وكذلك منظر المساء لهذه الأرض الجميلة وما يتركه في القلب من سكينة.
ما أجمل حبات القمح الذهبية وهي تنشر الخير في كل مكان! ما إن ينثرها المزارعون في الأرض بعد حرثها، إلا ونجدها بفضل الله بدأت تنبت وتخضر؛ لتصفرّ في صيف العام، فتصبح جاهزة ليحصدها المزارعون بمناجلهم، ويذرونها بالمذراة، لتصبح جاهزة لنقلها إلى المطاحن التي تنذر ببدء استخدامات القمح بكل مشتقاته: من طحين وعجين، فيعد منها أشهى الأطعمة لا سيما المخبوزات، كالبيتزا والمعجنات. كيف لهذه الحبات الصغيرة أن تقوم بكل هذا العمل، كيف لهذا الاصفرار أن يترك في النفوس فسحة طمأنينة، تجعل كل واحد منا يقبل على الحياة بكل تحدياتها.
الزراعة مصدر خير مهم يتجدد باستمرار؛ إذا أحسنا رعايتها والاهتمام بها، والأرض عطاء تجعلنا ننتظر موسم الحصاد لنجني ثمار عام كامل عشنا تفاصيله يومًا بعد يوم، ولحظة بعد لحظة، ثمار عام انتظرناه بعد كل ما بذلناه من تعب وجهد، بعد كل حب نثرناه مع كل حبة قمح صفراء جميلة نقية، فنستطيع من خلاله تلبية متطلبات الحياة الأخرى: من ماء وكهرباء وملابس جديدة ومصاريف المدارس، وغيرها من متطلبات لا يمكن الاستغناء عنها، وبها تكتمل متطلبات الحياة. هذه الأرض كنز ثمين لا يدرك قيمتها إلا من امتلكها فعرف قدرها، فمنها ينبت الخير الذي من خلاله نحصد نتاجًا يضارع حجم التعب، وغلالًا يساوي الكثير.
الخاتمة: رقص السنابل الذهبية في المزرعة
أما عن السنابل الذهبية، فإننا نراها تتراقص على أنغام النسيم الرقيق الذي يتجول في الأرض الواسعة، هذا المشهد الذي لا يتكرر دائمًا فيأسرنا بجماله الخلاب. تتراقص هذه السنابل على أنغام سيمفونية الأرض النادرة، فتتمايل يمينًا ويسارًا، وكأنها تداعب هذا النسيم في ساعات الصباح الأولى، مبشرة ببدء يوم جديد يفوح فرحًا وسرورًا. هذا المنظر الرائع يزداد جمالًا عندما يتعانق مع خيوط الغروب فيتناغمان معًا؛ لينسجا ضفيرة ذهبية رقيقة تحمل خيرًا وقمحًا، سنابل فيها عشرات الحبات من القمح، وفي غيرها قد تكون أكثر وأكثر، مما يجعلها أكثر تألقًا وجمالًا.
قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 99].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة» [متفق عليه].