جدول المحتويات
مقدمة
تُعد معلقة زهير بن أبي سلمى من أبرز القصائد في الأدب العربي، حيث تمتاز بالحكمة والوصف الدقيق والتعبير البليغ. تتناول القصيدة مواضيع متنوعة، بدءًا من الوقوف على الأطلال، مرورًا بوصف النساء، وصولًا إلى المدح والحكمة. في هذه المقالة، سنقوم بتحليل جوانب مختلفة من هذه المعلقة، لاستكشاف جمالياتها ومعانيها العميقة.
تأملات في مطلع القصيدة
يبدأ زهير معلقته بوصف الأطلال، وهي عادة شائعة في الشعر الجاهلي. يقول:
مِن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَم تَكَلَّمِ:::بِحَومانَةِ الدُرّاجِ فَالمُتَثَلَّمِ
وَدارٌ لَها بِالرَقمَتَينِ كَأَنَّها:::مَراجِعُ وَشمٍ في نَواشِرِ مِعصَمِ
بِها العَينُ وَالأَرآمُ يَمشينَ خِلفَةً:::وَأَطلاؤُها يَنهَضنَ مِن كُلِّ مَجثِمِ
وَقَفتُ بِها مِن بَعدِ عِشرينَ حِجَّةً:::فَلَأياً عَرَفتُ الدارَ بَعدَ التَوَهُّمِ
أَثافِيَّ سُفعاً في مُعَرَّسِ مِرجَلٍ:::وَنُؤياً كَجِذمِ الحَوضِ لَم يَتَثَلَّمِ
فَلَمّا عَرَفتُ الدارَ قُلتُ لِرَبعِها:::أَلا عِم صَباحاً أَيُّها الرَبعُ وَاِسلَمِ.
في هذه الأبيات، يصف الشاعر آثار الديار بعد مرور زمن طويل، حيث يظهر تأثير الحرب والصراعات على المكان. يشير إلى أن هذه الديار قد تدهورت وانمحت آثارها، حتى أصبحت كبقايا الوشم الخافت على اليد. كما يذكر أن الحيوانات البرية، مثل الغزلان، قد استوطنت هذه المناطق بعد أن كانت ساحة حرب. بعد عشرين عامًا، بالكاد تعرف الشاعر على هذه الديار، لكنه يعبر عن سعادته بانتهاء الصراع، ويدعو بالسلام والبركة على أهلها وسكانها. السلام الذي جاء بعد حرب داحس والغبراء التي استمرت مدة طويلة بين قبيلتي عبس وذبيان.
تصوير مشهد النساء
ينتقل الشاعر بعد ذلك إلى وصف النساء، في لوحة فنية رائعة تجسد جمالهن وحركتهن. يقول:
تَبَصَّر خَليلي هَل تَرى مِن ظَعائِنٍ:::تَحَمَّلنَ بِالعَلياءِ مِن فَوقِ جُرثُمِ
عَلَونَ بِأَنماطٍ عِتاقٍ وَكِلَّةٍ:::وِرادٍ حَواشيها مُشاكِهَةِ الدَمِ
وَفيهِنَّ مَلهىً لِلصَديقِ وَمَنظَرٌ:::أَنيقٌ لِعَينِ الناظِرِ المُتَوَسِّمِ
بَكَرنَ بُكوراً وَاِستَحَرنَ بِسُحرَةٍ:::فَهُنَّ لِوادي الرَسِّ كَاليَدِ لِلفَمِ
جَعَلنَ القَنانَ عَن يَمينٍ وَحَزنَهُ:::وَمَن بِالقَنانِ مِن مُحِلٍّ وَمُحرِمِ
ظَهَرنَ مِنَ السوبانِ ثُمَّ جَزَعنَهُ:::عَلى كُلِّ قَينِيٍّ قَشيبٍ مُفَأَّمِ
كَأَنَّ فُتاتَ العِهنِ في كُلِّ مَنزِلٍ:::نَزَلنَ بِهِ حَبُّ الفَنا لَم يُحَطَّمِ
فَلَمّا وَرَدنَ الماءَ زُرقاً جِمامُهُ:::وَضَعنَ عِصِيَّ الحاضِرِ المُتَخَيِّمِ.
هنا، يطلب الشاعر من رفيقيه التوقف والتأمل في مشهد النساء وهن يترجلن من الجبال والأودية، قادمات من كل صوب وهن آمنات مطمئنات. يصفهن وهن يتجهن إلى مصادر المياه للشرب والاستمتاع، في الصباح الباكر. يركز الشاعر على تصوير نعمة الأمن والاستقرار بعد الحرب، حيث يمكن للنساء التحرك بحرية دون خوف. إن رؤية النساء في هذه المنطقة، وفي هذا الوقت المبكر دون حماية، دليل على انتشار الأمن والسلام.
أوصاف في المدح
يمتدح زهير في معلقته هرم بن سنان والحارث بن عوف، اللذين سعيا إلى الصلح بين قبيلتي عبس وذبيان، وتحملا ديات القتلى. يقول:
سَعى ساعِيا غَيظِ بنِ مُرَّةَ بَعدَما:::تَبَزَّلَ ما بَينَ العَشيرَةِ بِالدَمِ
فَأَقسَمتُ بِالبَيتِ الَّذي طافَ حَولَهُ:::رِجالٌ بَنَوهُ مِن قُرَيشٍ وَجُرهُمِيَميناً لَنِعمَ السَيِّدانِ وُجِدتُما:::عَلى كُلِّ حالٍ مِن سَحيلٍ وَمُبرَمِ
تَدارَكتُما عَبساً وَذُبيانَ بَعدَما:::تَفانوا وَدَقّوا بَينَهُم عِطرَ مَنشِمِ
وَقَد قُلتُما إِن نُدرِكِ السِلمَ واسِعاً:::بِمالٍ وَمَعروفٍ مِنَ الأَمرِ نَسلَمِ
فَأَصبَحتُما مِنها عَلى خَيرِ مَوطِنٍ:::بَعيدَينِ فيها مِن عُقوقٍ وَمَأثَمِ
عَظيمَينِ في عُليا مَعَدٍّ وَغَيرِها:::وَمَن يَستَبِح كَنزاً مِنَ المَجدِ يَعظُمِ
فَأَصبَحَ يَجري فيهُمُ مِن تِلادِكُم:::مَغانِمُ شَتّى مِن إِفالِ المُزَنَّمِ.
يقسم الشاعر بالبيت الحرام بأن هذين الرجلين هما خير من أنجبته العرب، فقد أنقذا قبيلتين من الفناء وأنهيا حربًا طاحنة. يظهر هنا تقدير الشاعر لدورهما العظيم في تحقيق السلام والاستقرار. على الرغم من المبالغ المالية الكبيرة التي دفعاها، فإنهما خلدا اسميهما في التاريخ.
إشادة بقبيلتي عبس وذبيان
يثني زهير على قبيلتي عبس وذبيان، ويذكرهما بأهمية الالتزام بالعهد والسلام. يقول:
تُعَفّى الكُلومُ بِالمِئينَ فَأَصبَحَت:::يُنَجِّمُها مَن لَيسَ فيها بِمُجرِمِيُنَجِّمُها قَومٌ لِقَومٍ غَرامَةً:::وَلَم يُهَريقوا بَينَهُم مِلءَ مِحجَمِ
فَمِن مُبلِغُ الأَحلافِ عَنّي رِسالَةً:::وَذُبيانَ هَل أَقسَمتُمُ كُلَّ مُقسَمِ
فَلا تَكتُمُنَّ اللَهَ ما في نُفوسِكُم:::لِيَخفى وَمَهما يُكتَمِ اللَهُ يَعلَمِيُؤَخَّر فَيوضَع في كِتابٍ فَيُدَّخَر:::لِيَومِ الحِسابِ أَو يُعَجَّل فَيُنقَمِ
وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ:::وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِمَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً:::وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ
فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها:::وَتَلقَح كِشافاً ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِفَتُنتَج لَكُم غِلمانَ أَشأَمَ كُلُّهُم:::كَأَحمَرِ عادٍ ثُمَّ تُرضِع فَتَفطِمِ
فَتُغلِل لَكُم ما لا تُغِلُّ لِأَهلِها:::قُرىً بِالعِراقِ مِن قَفيزٍ وَدِرهَمِلَعَمري لَنِعمَ الحَيُّ جَرَّ عَلَيهِمُ:::بِما لا يُواتيهِم حُصَينُ بنُ ضَمضَمِ
وَكانَ طَوى كَشحاً عَلى مُستَكِنَّةٍ:::فَلا هُوَ أَبداها وَلَم يَتَجَمجَمِوَقالَ سَأَقضي حاجَتي ثُمَّ أَتَّقي:::عَدُوّي بِأَلفٍ مِن وَرائِيَ مُلجَمِ
فَشَدَّ وَلَم تَفزَع بُيوتٌ كَثيرَةٌ:::لَدى حَيثُ أَلقَت رَحلَها أُمُّ قَشعَمِلَدى أَسَدٍ شاكي السِلاحِ مُقَذَّفٍ:::لَهُ لِبَدٌ أَظفارُهُ لَم تُقَلَّمِ
جَريءٍ مَتى يُظلَم يُعاقِب بِظُلمِهِ:::سَريعاً وَإِلّا يُبدَ بِالظُلمِ يَظلِمِرَعَوا ما رَعَوا مِن ظِمئِهِم ثُمَّ أَورَدوا:::غِماراً تَسيلُ بِالرِماحِ وَبِالدَمِ
فَقَضَّوا مَنايا بَينَهُم ثُمَّ أَصدَروا:::إِلى كَلَأٍ مُستَوبِلٍ مُتَوَخِّمِلَعَمرُكَ ما جَرَّت عَلَيهِم رِماحُهُم:::دَمَ اِبنِ نَهيكٍ أَو قَتيلِ المُثَلَّمِ
وَلا شارَكوا في القَومِ في دَمِ نَوفَلٍ:::وَلا وَهَبٍ مِنهُم وَلا اِبنِ المُحَزَّمِفَكُلّاً أَراهُم أَصبَحوا يَعقِلونَهُم:::عُلالَةَ أَلفٍ بَعدَ أَلفٍ مُصَتَّمِ
تُساقُ إِلى قَومٍ لِقَومٍ غَرامَةً:::صَحيحاتِ مالٍ طالِعاتٍ بِمَخرِمِلِحَيٍّ حِلالٍ يَعصِمُ الناسَ أَمرُهُم:::إِذا طَلَعَت إِحدى اللَيالي بِمُعظَمِ
كِرامٍ فَلا ذو الوِترِ يُدرِكُ وِترَهُ:::لَدَيهِم وَلا الجاني عَلَيهِم بِمُسلَمِ.
يذكر الشاعر القبيلتين بأن الله يعلم ما تخفيه النفوس، ويحذرهم من نقض العهود. كما يذكرهم بأهوال الحرب، وأنها لا تجلب إلا الدمار والخراب. ثم يثني على فرسانهم وشجاعتهم، ويؤكد على أنهم أهل للثقة والوفاء بالعهود.
حكمة خالدة
تختتم المعلقة بأبيات تحمل حكمة عميقة وتجارب الحياة. يقول:
سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش:::ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِرَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب:::تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ
وَأَعلَمُ عِلمَ اليَومِ وَالأَمسِ قَبلَهُ:::وَلَكِنَّني عَن عِلمِ ما في غَدٍ عَميوَمَن لا يُصانِع في أُمورٍ كَثيرَةٍ:::يُضَرَّس بِأَنيابٍ وَيوطَأ بِمَنسِمِ
وَمَن يَكُ ذا فَضلٍ فَيَبخَل بِفَضلِهِ:::عَلى قَومِهِ يُستَغنَ عَنهُ وَيُذمَمِوَمَن يَجعَلِ المَعروفَ مِن دونِ عِرضِهِ:::يَفِرهُ وَمَن لا يَتَّقِ الشَتمَ يُشتَمِ
وَمَن لا يَذُد عَن حَوضِهِ بِسِلاحِهِ:::يُهَدَّم وَمَن لا يَظلِمِ الناسَ يُظلَمِوَمَن هابَ أَسبابَ المَنِيَّةِ يَلقَها:::وَلَو رامَ أَسبابَ السَماءِ بِسُلَّمِ
وَمَن يَعصِ أَطرافَ الزُجاجِ فَإِنَّهُ:::يُطيعُ العَوالي رُكِّبَت كُلَّ لَهذَمِوَمَن يوفِ لا يُذمَم وَمَن يُفضِ قَلبُهُ:::إِلى مُطمَئِنِّ البِرِّ لا يَتَجَمجَمِ
وَمَن يَغتَرِب يَحسِب عَدُوّاً صَديقَهُ:::وَمَن لا يُكَرِّم نَفسَهُ لا يُكَرَّمِوَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ:::وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ
وَمَن لا يَزَل يَستَحمِلُ الناسَ نَفسَهُ:::وَلا يُغنِها يَوماً مِنَ الدَهرِ يُسأَمِ.
يشير الشاعر إلى أنه بلغ من العمر عتيا، وأنه قد خبر الحياة وتقلباتها. يؤكد على أهمية العمل الصالح، واحترام الذات، والابتعاد عن الأفعال التي تجلب الشتائم. كما يذكر بحتمية الموت، وأن الإنسان لا يمكنه الهروب منه، لذا يجب عليه أن يسعى لترك أثر طيب في حياته.
المراجع
- ” أمن أم أوفى دمنة لم تكلم”، الديوان
- أحمد الزوزني، شرح الزوزني، (يرجى البحث عن نسخة متاحة عبر الإنترنت).
- أحمد الشنقيطي، شرح المعلقات العشر، (يرجى البحث عن نسخة متاحة عبر الإنترنت).