نظرة في قصيدة دار جدي لبدر شاكر السياب

تحليل معمق لقصيدة دار جدي للشاعر بدر شاكر السياب. استكشاف للمعاني والأفكار والجماليات الشعرية في القصيدة، مع تسليط الضوء على أبرز الصور الفنية.

مقدمة

تعتبر قصيدة “دار جدي” لبدر شاكر السياب من بين القصائد المؤثرة التي تعبر عن الشوق والحنين إلى الماضي. تتناول القصيدة مشاعر عميقة تجاه ذكريات الطفولة والمنزل القديم، وتستكشف فكرة الزوال والتغير. في هذا المقال، سنقوم بتحليل هذه القصيدة، واستكشاف معانيها، وفهم الأفكار الرئيسية التي تتضمنها، مع إبراز الصور الفنية التي استخدمها الشاعر.

تفسير أبيات من دار جدي

يفتتح بدر شاكر السياب قصيدته بوصف مؤثر لحالة منزله القديم، قائلاً:

مطفأة هي النوافذ الكثار:
وباب جدّي موصد وبيته انتظار،:
وأطرق الباب فمن يجيب يفتح؟:
تجيبني الطفولة الشباب منذ صار:
تجيبني الجرار جف ماؤها فليس تنضح::”بويب”، غير أنها تذرذر الغبار.:
مطفأة هي الشموس فيه والنجوم:
الحقب الثلاث منذ أن خفقت للحياة:
في بيت جدي ازدحمن فيه كالغيوم:
تختصر البحار في خدودهن والمياه:
فنحن لا نلم بالردى من القبور

هنا، يعبر الشاعر عن إحساسه بالوحدة والغياب، حيث يجد الأبواب مغلقة والنوافذ معتمة. لا يجد من يجيبه سوى ذكريات الطفولة والشباب البائد. يصف الشاعر كيف جفت الجرار، وأصبح المنزل مهجورًا، وكأن الزمن توقف فيه. يتابع السياب:

فأوجه العجائز:
أفصح في الحديث عن مناجل العصور:
من القبور فيه والجنائز:
وحين تقفز البيوت من بناتها:
وساكنيها من أغانيها ومن شكاتها:
نحس كيف يسحق الزمان إذ يدور

يشير الشاعر إلى أن وجوه العجائز تحمل في طياتها حكايات العصور الماضية، وهي أبلغ من القبور نفسها. وعندما تخلو البيوت من سكانها، نشعر بقسوة مرور الزمن.

ثم يتسائل الشاعر:

أأشتهيك يا حجارة الجدار يا بلاط يا حديد يا طلاء:
أأشتهي التقاءكن مثلما انتهى إلي فيه؟:
أم الصّبا صباي والطفولة اللعوب والهناء:
وهل بكيت أن تضعضع البناء:
وأقفر الفناء أم بكيت ساكنيه؟:
أم أنني رأيت في خرابك الفناء:
محدقًا إليّ منك من دميه

هنا، يعبر عن حيرته وشوقه إلى تفاصيل المنزل، ويتساءل عما إذا كان بكاؤه على حال الدار أم على من سكنوها. هل يرى في خراب المنزل نهاية محتومة؟ ويستكمل:

مكشرًا من الحجار؟ آه أيّ برعم:
يربّ فيك؟ برعم الردى، غدًا أموت:
ولن يظل من قواي ما يظل من خرائب البيوت:
لا أنشق الضياء لا أعضعض الهواء:
لا أعصر النهار أو يمصّني المساء

يصف الشاعر كيف أن برعم الفناء قد بدأ ينمو في الدار، وأنه يشعر بدنو أجله، وأنه سيصبح ضعيفًا كالمنازل الخربة، ولن يتمتع بجمال الحياة.

كأنّ مقلتي، بل كأنني انبعثت “أورفيوس”:
تمصّه الخرائب الهوى إلى الجحيم:
فيلتقي بمقلتيه، يلتقي بها بيورديس

يشبه نفسه بأورفيوس الذي تجذبه الخرائب إلى الهلاك، ليجتمع بحبيبته بيورديس. ثم يوجه حديثه:

“آه يا عروس:
يا توأم الشباب يا زنبقة النعيم”:
طريقه ابتناه بالحنين والغناء::براعم الخلود فتحت له مغالق الفناء:
وبالغناء يا صباي يا عظام يا رميم:
كسوتك الرواء والضياء:
طفولتي صباي أين أين كلّ ذاك؟:
أين حياة لا يحد من طريقها الطويل سور:
كشر عن بوّابة كأعين الشباك:
تفضي إلى القبور

ويخاطب العروس التي تمثل الشباب والنعيم، ويتساءل عن مصير طفولته وشبابه، وعن الحياة التي تقوده إلى القبر.

والكون بالحياة ينبض:
المياه والصخور:
وذرة الغبار والنمال والحديد:
وكل لحن كل موسم جديد:
الحرث والبذار والزهور:
وكل ضاحك فمن فؤاده وكل ناطق فمن فؤاده:
وكل نائح فمن فؤاده والأرض لا تدور

يرى الشاعر أن الكون ينبض بالحياة في كل شيء، وأن كل إنسان يعبر عن مشاعره من قلبه، وأن الأرض لا تتوقف بسبب حزنه.

والشمس إذ تغيب تستريح كالصغير في رقاده:
والمرء لا يموت إن لم يفترسه في الظلام ذيب:
أو يختطفه مارد والمرء لا يشيب:
(فهكذا الشيوخ منذ يولدون:
الشعر الأبيض والعصي والذقون)

يشير إلى أن الشمس تستريح في الليل، وأن الإنسان لا يموت إلا إذا تعرض للموت، وأن الشيوخ يبدون كأنهم ولدوا شيوخًا.

وفي ليالي الصيف حين ينعس القمر:
وتذبل النجوم في أوائل السحر:
أفيق أجمع الندى من الشجر:
في قدح ليقتل السعال والهزال:
وفي المساء كنت أستحمّ بالنجوم:
عيناي تلقطانهن نجمةً فنجمةً وراكب الهلال:
سفينةً كأن سندباد في ارتحال:
شراعي الغيوم:
ومرفئي المحال

يتذكر ليالي الصيف وجمالها، وكيف كان يستمتع بجمع الندى والاستحمام بالنجوم.

وأبصر الله على هيئة نخلة كتاج نخلة يبيضّ:
في الظلام:
أحسه يقول: يا بني يا غلام
وهبتك الحياةوالحنانوالنجوم:
وهبتها لمقلتيك والمطر:
للقدمين الغضّتين فاشرب الحياة:
وعبّها يحبّك الإله:
أهكذا السنون تذهب:
أهكذا الحياة تنضب؟:
أحس أنني أذوب أتعب:
أموت كالشجر

في النهاية، يشعر الشاعر بقرب الله منه، وبأنه وهبه الحياة والجمال، ولكنه يشعر بدنو أجله ويريد أن يموت واقفًا كالشجر.

الأفكار المحورية في القصيدة

تتضمن قصيدة “دار جدي” عدة أفكار رئيسية، منها:

  • تأثير مرور الزمن على الأماكن والأشخاص.
  • الحنين إلى الماضي وذكريات الطفولة.
  • الشعور بالفقد والوحدة.
  • التأمل في فكرة الموت والفناء.
  • إدراك قيمة الحياة وجمال الطبيعة.
  • الشعور بقرب الخالق في كل تفاصيل الوجود.

الصور البلاغية في القصيدة

تتميز قصيدة “دار جدي” بالعديد من الصور الفنية الرائعة، ومنها:

  • تجيبني الطفولة: استعارة مكنية، حيث شبه الطفولة بالإنسان الذي يجيب.
  • تجيبني الجرار: استعارة مكنية، حيث شبه الجرار بالإنسان الذي يجيب.
  • الحقب الثلاث في بيت جدي ازدحمن فيه كالغيوم: تشبيه تمثيلي، حيث شبه ازدحام الحقب في بيت الجد بازدحام الغيوم.
  • تقفز البيوت: استعارة مكنية، حيث شبه البيوت بالكائن الحي الذي يقفز.
  • والكون بالحياة ينبض: استعارة مكنية، حيث شبه الكون بالكائن الحي الذي ينبض.
  • والشمس إذ تغيب تستريح كالصغير في رقاده: تشبيه تمثيلي، حيث شبه الشمس عند الغروب بالطفل الذي يستريح.
  • ينعس القمر: استعارة مكنية، حيث شبه القمر بالإنسان الذي ينعس.
  • تذبل النجوم: استعارة مكنية، حيث شبه النجوم بالنبات الذي يذبل.
  • أموت كالشجر: تشبيه مجمل، حيث شبه الشاعر نفسه بالشجر عند الموت.

معاني الكلمات

الكلمةالمعنى
تذرذرنثر الشيء وتفريقه.
الردىالموت والهلاك.
تضعضعتعرض للتخريب والتهدّم.
أقفرخلا من الناس.
رميمالشيء البالي من كل شيء.
الهزالالنحافة والنحول في الجسد.
الغضّتينالشيء الطري والناعم والرقيق.
عبَّهاشرب الماء بلا تنفُّس.
تنضبتشح وتقل وتنقص.
Total
0
Shares
المقال السابق

نظرة في قصيدة حديقة الغروب لغازي القصيبي

المقال التالي

قراءة في مرثية دنشواي لأحمد شوقي

مقالات مشابهة