حول صيام شهر رجب
وردت بعض الروايات بخصوص صيام شهر رجب، إلا أن أغلبها ضعيف ولا يعتد به، وبعضها الآخر مكذوب على النبي -صلى الله عليه وسلم-. وهذا يعني أن تخصيص شهر رجب بالصيام يعتبر من الأمور المستحدثة التي لا أساس لها في الدين. وقد أكد الشيخ مصطفى العدوي في شرحه للتفسير أنه لم يجد نصًا صريحًا وثابتًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يخص صيام شهر رجب تحديدًا، إلا ما جاء في العموم مما يشير إلى أن شهر رجب من الأشهر الحرم، كما قال الله -تعالى-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهورِ عِندَ اللَّـهِ اثنا عَشَرَ شَهرًا في كِتابِ اللَّـهِ يَومَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ مِنها أَربَعَةٌ حُرُمٌ).
بالرغم من عدم وجود دليل قاطع بخصوص صيام شهر رجب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو الصحابة -رضي الله عنهم-، يمكن للمسلم أن يحتسب الأجر على صيامه بما ورد في فضل الصيام بشكل عام، دون الاعتقاد بوجود خصوصية لصيام شهر رجب. مع التنبيه على عدم صيام شهر رجب كاملاً كما في شهر رمضان.
والجدير بالذكر أنه لا يوجد أي اختلاف بين شهر رجب وشهر جمادى الآخرة الذي يسبقه، سوى أن رجب من الأشهر الحرم. وبالتالي، لا يختص شهر رجب بصيام أو عمرة أو صلاة معينة، بل العبادة فيه كباقي الأشهر. ويستحب الصيام في شهر رجب لكونه من الأشهر الحرم، وذلك استنادًا إلى النصوص التي تحث على الصيام فيها. أما الروايات التي تخص شهر رجب تحديدًا بالندب أو النهي عن الصيام، فهي ضعيفة ولا يؤخذ بها، ومنها ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ نهى عَن صيامِ رجبٍ). وما روي عن خرشة بن الحرّ أنه قال: (رأيتُ عمرَ بنَ الخطَّابِ يضربُ أكفَّ الرِّجالِ في صومِ رجبٍ حتَّى يضعونَها في الطَّعامِ ويقولُ رجبٌ وما رجبٌ إنَّما رجبٌ شهرٌ كانَ يعظِّمُهُ أهلُ الجاهليَّةِ فلمَّا جاءَ الإسلامُ تُرِكْ). وما رُوي عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: (أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لم يتمَّ صومَ شهرٍ بعدَ رمضانَ إلَّا رجبَ وشعبانَ). ولا يصح الاستناد إلى أي من هذه الروايات.
فيما يتعلق بالصيام في الأشهر الحرم، يستحب صيامه عند الشافعية والمالكية، ويستحب صيام شهر الله المحرم عند الحنابلة، لأنه أفضل الصيام بعد شهر رمضان. وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ، الصَّلَاةُ في جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ، صِيَامُ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ). ويفضل صيام يوم عاشوراء من شهر محرم. أما الحنفية، فقد استحبوا صيام ثلاثة أيام من كل شهر محرم: الخميس، والجمعة، والسبت.
الأيام المُستحبة للصيام في رجب
يعتبر صيام شهر رجب من صيام التطوع. ومن صور صيام التطوع: صيام يوم وإفطار يوم، وصيام يومي الاثنين والخميس، لأن صيامهما سبب في رفع الدرجات وتكفير السيئات. ومن صيام التطوع ما يتكرر مع تكرر الأشهر، كالأيام البيض: وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، وكذلك الأيام السود: وهي الثامن والعشرون والتاسع والعشرون والثلاثون، وإذا كان الشهر أقل من ثلاثين يومًا، فيعوض اليوم الثلاثون بأول الشهر، ويمكن التعويض أيضًا بصيام اليوم السابع والعشرين احتياطًا. وخصصت الأيام البيض والأيام السود بالصيام، شكرًا وحمدًا لله -سبحانه- على النور في الأيام البيض، وطلبًا منه كشف السواد في الأيام السود.
فيما يلي تفصيل لصيام التطوع الذي يمكن أن يكون في الأشهر الحرم وغيرها من الأشهر:
صيام يومي الاثنين والخميس:
أجمع العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية على استحباب صيام يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع. وقد استدلوا على ذلك بما ورد عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- أنه قال: (رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يصومُ يومَ الاثنينِ والخميسِ فسألتُهُ فقالَ: إنَّ الأعمالَ تُعرَضُ يومَ الاثنينِ والخميسِ، فأحبُّ أن يُرفَعَ عملي وأَنا صائمٌ)، بالإضافة إلى ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي قتادة -رضي الله عنه-: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الاثنين فقال: فيه ولدت، وفيه أنزل علي).
صيام ثلاثة أيام من كل شهر:
اتفق العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية على استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، واستدلوا على ذلك بما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: (أَوْصَانِي خَلِيلِي بثَلَاثٍ لا أدَعُهُنَّ حتَّى أمُوتَ: صَوْمِ ثَلَاثَةِ أيَّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ، وصَلَاةِ الضُّحَى، ونَوْمٍ علَى وِتْرٍ)، واستحب كل من الحنفية والشافعية والحنابلة وجماعة من المالكية أن تكون الأيام الثلاث الأيام البيض، استدلالاً بما ورد عن موسى الهُذليّ: (سألتُ ابنَ عباسٍ عن صيامِ ثلاثةِ أيامِ البيضِ. فقال: كان عُمرُ يصومُهنَّ).
صيام يوم وإفطار يوم:
يستحب صيام يوم وإفطار يوم، وذلك أفضل صيام التطوع، استدلالاً بما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما-: (أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ له: أَحَبُّ الصَّلَاةِ إلى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ عليه السَّلَامُ، وأَحَبُّ الصِّيَامِ إلى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وكانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ويقومُ ثُلُثَهُ، ويَنَامُ سُدُسَهُ، ويَصُومُ يَوْمًا، ويُفْطِرُ يَوْمًا).
استكشاف شهر رجب وأهميته
يعتبر شهر رجب من الأشهر الحرم، ويقع بين شهري شعبان وجمادى. سميت الأشهر الحرم بهذا الاسم لأن العرب كانوا يحرمون القتال فيها ويمنعونه منعًا باتًا. كما أن ارتكاب الذنوب والمعاصي فيها أشد حرمة من وقوعها في غيرها من الأشهر. وقد سمي شهر رجب بعدة أسماء، منها: رجم؛ للقول بأن الشياطين كانت ترجم فيه، كما سمي بشهر رجب الأصم؛ لعدم وقوع أي قتال فيه، وسمي أيضًا بالأصب؛ لصب الرحمة فيه صبًا، وسمي بالمعكعك، والمعلى، والمقيم؛ لقيام وثبوت الرحمة فيه. أما الاسم الشرعي له فهو: رجب؛ من الترجيب؛ أي التعظيم.
المصادر
- عبدالله التويجري (2000)،البدع الحولية(الطبعة الأولى)، الرياض: دار الفضيلة، صفحة 440.
- سورة التوبة، آية: 36.
- مصطفى بن العدوي،سلسلة التفسير لمصطفى العدوي، صفحة 14، جزء 77.
- محمد اسماعيل المقدم،سلسلة علو الهمة، صفحة 28، جزء 18.
- محمد بن صالح العثيمين،لباب المفتوح، صفحة 26، جزء 174.
- رواه الألباني، في ضعيف ابن ماجه، عن عبدالله بن عباس، الصفحة أو الرقم: 339، ضعيف جداً.
- رواه الهيثمي، في مجمع الزوائد، عن خرشة بن الحر الفزاري، الصفحة أو الرقم: 3/194، فيه الحسن بن جبلة وبقية رجاله ثقات.
- رواه الهيثمي، في مجمع الزوائد، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 3/194، فيه يوسف بن عطية وهو ضعيف.
- محمود عويضة،الجامع لأحكام الصيام، صفحة 167.
- رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 1163، صحيح.
- وهبة الزحيلي،الفقه الإسلامي وأدلته(الطبعة الرابعة)، دمشق: دار الفكر، صفحة 1643، جزء 3.
- وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية،الموسوعة الفقهية الكويتية(الطبعة الأولى)، مصر: دار الصفوة، صفحة 13-14، جزء 28.
- حمد الحمد،فقه الصيام والحج من دليل الطالب، صفحة 1، جزء 8.
- سعيد القحطاني (2010)،الصيام في الإسلام في ضوء الكتاب والسنة(الطبعة الثالثة)، صفحة 367.
- وهبة الزحيلي،الفقه الإسلامي وأدلته(الطبعة الرابعة)، دمشق: دار الفكر، صفحة 1646، جزء 3.
- مجموعة من الباحثين،الموسوعة الفقهية-الدرر السنية، صفحة 435-436.
- رواه ابن حجر العسقلاني، في فتح الباري لابن حجر، عن أسامة بن زيد، الصفحة أو الرقم: 4/278، صحيح.
- رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي قتادة الحارث بن ربعي، الصفحة أو الرقم: 1162، صحيح.
- رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 1178، صحيح.
- رواه البوصيري، في إتحاف الخبرة المهرة، عن موسى بن سلمة، الصفحة أو الرقم: 1/395، رجاله ثقات.
- رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبدالله بن عمرو، الصفحة أو الرقم: 1131، صحيح.
- سيد حسين العفاني،دروس الشيخ سيد حسين العفاني، صفحة 3، جزء 6.