نظرة شاملة على الفقه الحنبلي

استكشاف نشأة الفقه الحنبلي، مؤسسه، أصوله العامة، انتشاره وازدهاره، أبرز علمائه، وخصائص أتباعه.

مقدمة

يعتبر الفقه الحنبلي أحد المذاهب الفقهية الأربعة الرئيسية في الإسلام السني. يتميز هذا المذهب بأسسه المنهجية الواضحة، واعتماده الكبير على النصوص الشرعية من القرآن والسنة النبوية. وفيما يلي نستعرض أهم جوانب هذا المذهب.

بدايات ظهور الفقه الحنبلي

يرجع تأسيس الفقه الحنبلي إلى الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، رحمه الله، الذي ولد ونشأ في بغداد. انطلق المذهب الحنبلي من بغداد وانتشر في مناطق واسعة من بلاد الشام. يذكر ابن فرحون في كتابه “الديباج المذهب” أن المذهب الحنبلي شهد فترة ضعف في القرن الثامن الهجري.

تأخر ظهور الفقه الحنبلي في مصر حتى القرن السابع الهجري، حيث كان الإمام أحمد بن حنبل يعيش في العراق خلال القرن الثالث الهجري، ولم ينتشر مذهبه خارج العراق إلا في القرن الرابع الهجري. في تلك الفترة، سيطر العبيديون على مصر، وقاموا بملاحقة أتباع الأئمة الثلاثة ونشر مذهب الرافضة حتى أواخر القرن السادس الهجري.

ساهم الحافظ عبد الغني المقدسي في نشر المذهب الحنبلي في مصر، وازداد انتشاره في عهد القاضي عبد الله بن محمد بن محمد بن عبد الملك الحجاوي.

الإمام أحمد بن حنبل: رائد المذهب

هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني، ولد في شهر ربيع الأول من عام 164 هـ. ينتمي إلى أصول عربية، حيث تعود قبيلته شيبان إلى قبائل ربيعة العدنانية. اشتهرت قبيلته بالشجاعة والصبر، وكانت تسكن البصرة وباديتها. نشأت أسرته في البصرة، ثم انتقل جده إلى خراسان وتولى سرخس في عهد الخلافة الأموية.

بعد ذلك، انضم إلى الدولة العباسية، مما اضطره إلى الانتقال إلى بغداد، حيث ولد الإمام أحمد. توفي والده وهو صغير، فتولت والدته تربيته، وحرصت على توجيهه لخدمة الدين منذ صغره. حفظ القرآن الكريم وتعلم علوم العربية، وتميز بين أقرانه بالتقوى والاستقامة والخلق الرفيع. توفي في شهر ربيع الأول من عام 241 هـ.

الأسس المنهجية للفقه الحنبلي

اعتمد الإمام أحمد بن حنبل في منهجه على عدة أصول وقواعد أساسية، وهي:

  • القرآن والسنة: حيث يعتبرهما المصدرين الرئيسيين للتشريع، ولا يلتفت إلى غيرهما عند وجود حكم فيهما، ولا يقدم على الحديث الصحيح أي قياس أو رأي أو عمل أهل المدينة أو إجماع غير معلوم المخالف.
  • فتاوى الصحابة: وذلك في حال عدم وجود نص في المسألة، ولا يلتفت إلى غيره في حال عدم وجود مخالف من الصحابة لهذا الصحابي.
  • اختيار أقوال الصحابة الأقرب إلى القرآن والسنة: وذلك في حال تعدد الآراء بينهم في المسألة الواحدة، وفي حال عدم تبيّن الأقرب، فإنه يحكي تعدد الآراء دون الجزم بأقربها.
  • الحديث المرسل والضعيف: وذلك في حال عدم وجود أثر أو قول لصحابي أو إجماع يخالفه في المسألة.
  • القياس: وهو من الأدلة التي يلجأ إليها في حال عدم وجود دليل من الأدلة السابقة في المسألة.
  • سد الذرائع.

وقد قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله:

“القُرآن والسُنّة، وفي حال وجد الحُكم فيهما لم يلتفت إلى غيرهما، ولا يُقدّم على الحديث الصحيح شيئاً من القياس، أو الرأي، أوعمل أهل المدينة، أو الإجماع غير معلوم المُخالف.”

توسع وانتشار المذهب الحنبلي

انتشر الفقه الحنبلي في وقت متأخر مقارنة بالمذاهب الأخرى، لكنه استمر في التطور والازدهار حتى مع تراجع بعض المذاهب الأخرى. بدأت معرفة المذهب من خلال المصنفات التي ألفها الأئمة بعد القرن الرابع الهجري.

من بين الأسباب التي أدت إلى تأخر ظهور المذهب الحنبلي هو تأخره الزمني عن المذاهب الأخرى، واستقرار الناس على المذاهب التي وصلت إليهم أولاً. بدأ المذهب الحنبلي في الاستقرار في بغداد، موطن الإمام أحمد بن حنبل، وانتشر في بعض الأقطار الإسلامية كحران والشام ومصر والجزيرة العربية.

بدأ المذهب في الازدهار، وبدأ علماؤه بضبط القواعد العامة في المسائل المنقولة عن الإمام وأصحابه، مع ذكر الروايات عن الإمام. قام مجتهدو المذهب بتخريج الفروع على الأصول، مع الترجيح بين الروايات والوجوه.

استمر هذا النشاط حتى أواخر القرن التاسع الهجري، حيث جاء المرداوي ووضع قواعد وضوابط خاصة للمسائل الفقهية في المذهب، ونظم فروعه. ثم جاء علماء المذهب بضبط المتشابهات وتحديد الفروق بينها، واستمر المذهب في التطور حتى استقر بعد القرن التاسع من الناحية التنقيحية.

أعلام الفقه الحنبلي

توجد أسماء لامعة في الفقه الحنبلي، ومن بين هؤلاء العلماء:

  • إبراهيم بن إسحاق الحربي البغدادي.
  • إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري.
  • أحمد بن حميد، أبو طالب المشكاني.
  • أحمد بن محمد بن الحجاج، أبو بكر المروذي.
  • أحمد بن محمد بن هانئ، أبو بكر، الأثرم، الطائي، وقيل: الكليي الاسكافي.

صفات وخصائص أتباع المذهب الحنبلي

يتميز المذهب الحنبلي بعدة خصائص وصفات، منها:

  • إعطاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أهمية كبرى من حيث التطبيق والتنفيذ.
  • العناية بالحديث الشريف وتطوير علومه.
  • أخلاق الإمام أحمد وسيرته، واتساع علمه؛ الأمر الذي ساعد في انتشار مذهبه، وتناقله بين الأمصار.
  • اتباع الصحابة والسلف، والوقوف في وجه كل من يحاول الخدش في الدين.
  • الزهد.

المؤلفات الهامة في الفقه الحنبلي

توجد العديد من الكتب الفقهية المعتمدة في الفقه الحنبلي، منها:

  • كتاب شرح العمدة؛ لمؤلفه شيخ الإسلام ابن تيمية، ويعد هذا الكتاب من أوسع الكتب في الفقه الحنبلي من حيث الروايات وأقوال الأصحاب المتقدمين، والتفصيل في أقوال المذهب ومناقشتها، والترجيح بينها.
  • كتاب الفروع، لمؤلفه شمس الدين ابن مفلح.
  • كتاب المسائل عن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، لمؤلفه إسحاق بن منصور بن بهرام، أبو يعقوب، المروزي الملقب “الكوسج”، فدون فيه المسائل عن الإمام أحمد بن حنبل في الفقه، كما قال ذلك ابن أبي يعلى.
  • كتاب الإنصاف، لمؤلفه علاء الدين المرداوي.

مكانة الفقه الحنبلي بين المذاهب

يعتبر الفقه الحنبلي من أقل المذاهب انتشاراً في البلاد الإسلامية على الرغم من كثرة أصحابه وتلامذته. وقد ذكر ابن خلدون أن ذلك يعود إلى أنه مذهب قليل الاجتهاد، واتباعه للرواية والحديث، وانتشاره في البلاد التي تعتمد على الرواية، كالشام والعراق.

وذكر الشيخ أبو زهرة أن السبب في ذلك يعود إلى أن أتباع المذهب كانوا لا يميلون إلى الولاية أو القضاء. انتشر المذهب في السعودية، وأخذوا به في قانون الأحوال الشخصية، والمعاملات المالية، والقصاص والحدود، مما أكسبه بعض القوة والانتشار.

المراجع

  • أحمد تيمور باشا (1990)،نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهية الأربعة الحنفي المالكي الشافعي الحنبلي وانتشارها عند جمهور المسلمين(الطبعة 1)، بيروت:دار القادري للطباعة والنشر والتوزيع، صفحة 81-82. بتصرّف.
  • مناع القطان (2001)،تاريخ التشريع الإسلامي(الطبعة 5)، صفحة 379-380. بتصرّف.
  • طه العلواني (1405)،أدب الاختلاف في الإسلام(الطبعة 1)، صفحة 98-99. بتصرّف.
  • عبد الله بن عبد المحسن التركي (2002)،المذهب الحنبلي دراسة في تاريخه وسماته وأشهر أعلامه ومؤلفاته(الطبعة 1)، صفحة 227-233، جزء 1. بتصرّف.
  • عبدالله التركي (2002)،المذهب الحنبلي دراسة في تاريخه وسماته وأشهر أعلامه ومؤلفاته(الطبعة 1)، صفحة 173-177، جزء 1. بتصرّف.
  • عبدالله التركي (2002)،المذهب الحنبلي دراسة في تاريخه وسماته وأشهر أعلامه ومؤلفاته(الطبعة 1)، صفحة 333-336، جزء 1. بتصرّف.
  • أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (2019)،شرح عمدة الفقه(الطبعة 3)، بيروت:دار ابن حزم، صفحة 5. بتصرّف.
  • عبد الله بن عبد المحسن التركي (2002)،المذهب الحنبلي دراسة في تاريخه وسماته وأشهر أعلامه ومؤلفاته(الطبعة 1)، صفحة 1، جزء 2. بتصرّف.
  • مناع القطان (2001)،تاريخ التشريع الإسلامي(الطبعة 5)، صفحة 394. بتصرّف.
Total
0
Shares
اترك تعليقاً
المقال السابق

مفهوم المجاز اللغوي وأنواعه

المقال التالي

نظرة في المذهب الحنفي: نشأته، أعلامه، وأصوله

مقالات مشابهة