مقدمة
تُعتبر رواية “الزيني بركات” للكاتب المصري جمال الغيطاني من الأعمال الروائية البارزة في الأدب العربي الحديث. نُشرت هذه الرواية في السبعينات، وأُعيد طبعها عام 1994 من قِبل دار الشروق. تتألف الرواية من 287 صفحة، وتحكي قصة تاريخية تدور أحداثها في القاهرة خلال القرن السادس عشر، إبان فترة حكم المماليك. تتمحور القصة حول شخصية الزيني بركات، الذي يتم تعيينه محتسبًا للمدينة، وهو منصب يجمع بين السلطة الدينية والمدنية، ويناط به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
دراسة المحتوى والأفكار الرئيسية
تدور أحداث الرواية في حقبة تاريخية معينة، وتسلط الضوء على صعود شخصية الزيني بركات، المحتسب الذي يجمع في يده السلطات الدينية والدنيوية. في بداية الأمر، يظهر الزيني بركات بمظهر الشخص النزيه والعادل، مما يثير إعجاب الناس به. ومع ذلك، يتبين أن الخوف هو السمة المهيمنة على العلاقات بين الحاكم والمحكوم، وبين الحاكم وحاشيته، وبين الناس وعيون الجواسيس. تكشف الرواية عن طبيعة المراقبة الحكومية الصارمة والعقوبات القاسية التي كانت سائدة في تلك الفترة.
الخوف يلعب دوراً محورياً في نسيج الرواية، فهو يسيطر على المحكومين من الحاكم، ويشمل الحاكم ذاته من حاشيته، كما يخيم على الأهالي من أعين الجواسيس المنتشرة. وتوضح الرواية كيف كانت المراقبة الحكومية والعقاب أدوات قمع فعالة.
السمات الأسلوبية في الرواية
يسعى الكاتب من خلال شخصية الزيني بركات إلى الربط بين الماضي والحاضر. الرواية ليست بالسهولة المتوقعة، وذلك بسبب تعدد الأساليب الكتابية التي تتراوح بين السرد، الرسائل، والمذكرات الشخصية. ومع ذلك، فإن سلاسة لغة الغيطاني تخفف من هذا التعقيد الأسلوبي. يعتمد الكاتب على الرمزية التي يمكن إسقاطها على الواقع المعاصر، حيث تمثل تفاعلات وأحداث وشخصيات الرواية الواقع العربي.
تُظهر الرواية كيف تتحول أجهزة الدولة إلى بيروقراطيات منفصلة يسودها التنافس، وتدار بمنطق العصابات فوق سلطة القانون. سواء كان الزيني بركات يمثل الانتهازية أو قمع الجواسيس، فإنه يشير إلى المستبدين الذين جروا الشعب إلى صراعات مدمرة، وأدت إلى الهزائم والعار على المستويات المحلية والقومية.
الصور الفنية والاستعارات
يعتمد جمال الغيطاني في روايته على تقنية الوصف، وذلك لتسليط الضوء على الأماكن، والشخصيات، والأشياء، والوسائل بطريقة تفصيلية. يتخلل هذه الأوصاف سمات بيانية وبديعية، مثل وصف القاهرة، ووصف الزيني بركات، ووصف طرق تعذيب المساجين. يسرد الكاتب تفاصيل تصميم الزنازين التي تهدف إلى إذلال النزلاء وانتزاع الاعترافات منهم، بالإضافة إلى وصف دقيق لطرق التعذيب والتصفية الجسدية.
من الاقتباسات التي تجسد الصور الفنية في الرواية:
“بيوت المدينة كلها مغلقة، مرعوشة تود لو توارت، تفيء إلى الأمان المرجو، شموع بيتي مطفأة، أخشى تراقص الضوء في أحداق العيون المتلصصة.”
“ويقف سعيد الجهيني كمرآة صقيلة للشخصية التي تنتمي إلى العوام، يتوق إلى العلم والعمل والمعرفة والمجتمع العادل، لكن انتماءه إلى جمع مبهم لا نسق له يقوده إلى لا مكان، إلى خيبة ملتاعة وهزيمة متكاثرة، ينهزم حلمه في تغيير الواقع إذ يعقد آمالًا خاسرة على الزيني.”
“الشمس تشرق لتغيب، النهار يطلع ليشيخ، ثم يعتصره الليل، والقمر لا يبقى في العيون مكتملًا، النهر يبدأ لينتهي، والغيث بعد حين ينقطع، والمسافة مهما طالت تقصر وتنتهي”.
الحوار وطرق السرد
يكشف الكاتب عن النزعة الإجرامية عند الإنسان من خلال الحوار الداخلي للشخصيات، كما في الحوار الداخلي لكبير البصاصين الذي يعترف بجرائمه التي لم تقتصر على العامة، بل امتدت إلى اختطافهم وتعذيبهم لإشاعة الخوف والرعب في المجتمع المملوكي.
يتميز أسلوب الغيطاني بأنه لا يتبع الشكل التقليدي في تقسيم الرواية إلى فصول، بل يقسمها إلى سرادقات، ويسبق السرادق الأول بمقدمة. استخدام السرادق له دلالة لغوية، فهو مكان للاجتماع تتداخل فيه الأحاديث والأخبار. يعتمد السرد على ما تعلمه الكاتب من التراث، حيث يلعب التراث دور القناع وينتهك بنية الشكل الروائي لتقديم مقامات وأحوال عصرية، مما يجعل التراث السردي عاملاً خلافيًا ووسطًا خصبًا للتعبير الروائي العربي المعاصر.
وجهات نظر نقدية
تعددت الآراء النقدية حول رواية “الزيني بركات”، ومن أبرز هذه الآراء:
رأي المفكر المصري إبراهيم عوض
يرى المفكر المصري إبراهيم عوض أن الرواية تحتوي على أخطاء تاريخية فادحة، ويستشهد بقول المؤلف على لسان كبير البصاصين: “ألم يكن خاتم المرسلين وسيد البشر مضطهَدًا من قومه؟ ألم يرمه اليهود بالحجارة من فوق أسوار الطائف فألهب الهجير باطن قدميه، وسال دمه؟ ألم يحاربوه وتأكل واحدة منهم كبد عمه حمزة نيئة؟.[٨] ومن قبل ألم يثقلوا رأس المسيح عليه السلام بالشوك، ودقوا المسامير فى جسده وصلبوه؟” (ص150). ويشير عوض إلى أن اليهود لم يرموا النبي صلى الله عليه وسلم بالحجارة في الطائف، بل الذين رموه بالحجارة هم صبيان الطائف وعبيدها وسفهاؤها من المشركين الوثنيين.
رأي الباحث والكاتب إبراهيم أزروال
يرى الكاتب إبراهيم أزروال أن جمال الغيطاني نجح في تنويع أساليب السرد وطرائقه ولغاته من خلال التفاعل مع النصوص والفنون النثرية التراثية، واعتمد أنواعًا فرعية متعددة منها المذكرات والنداءات والتقارير والرسائل والخطب.
كما يؤكد أزروال أن الغيطاني استطاع في “الزيني بركات” إعادة صياغة وقائع الزمن المملوكي وعوالمه السياسية والاجتماعية والثقافية.
رأي الناقدة سيزا قاسم
تؤكد الناقدة سيزا قاسم أن جمال كتابة الغيطاني يكمن في محاكاة قول ابن إياس التاريخي، حيث لا يلجأ إلى استخدام محتوى تاريخي يصوغه في لغة عصره، بل ينتقل بنصه الخاص إلى الحقبة التاريخية السالفة.
رأي الدكتور بليغ حمدي إسماعيل
يرى الدكتور بليغ حمدي إسماعيل أن الغيطاني كان يقصد حالة التجلي وهو يكتب رواياته، وتحديدًا “الزيني بركات”، حيث استطاع أن ينقل القارئ صوب مشاعره السردية، وينتزع الانفعال منه.
تُعد رواية “الزيني بركات” من الروايات التي تناولت ظاهرة القمع والخوف، وحللت أسبابها وبينت مظاهرها المرعبة في حياة الشعوب العربية. يذكرنا الغيطاني بتاريخ ابن إياس، فعندما نقرأ عن تعذيب التاجر علي أبي الجود وكيف تفنن في تعذيبه للحصول على المال، وكيف كانت وسيلة إرغامه على الإقرار هي تعذيب الفلاحين على مدى سبعة أيام أمامه، فإنما هو يهدف إلى إخافته وترويعه.