نظرات في الهجرة النبوية الشريفة

تحليل لأحداث الهجرة النبوية وأهميتها في تاريخ الإسلام، مع استخلاص الدروس والعبر المستفادة منها.

تمهيد

الحمد لله حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، والحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

تأكيد على أهمية تقوى الله

أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، فهي سبيل الفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة. تذكروا دائمًا قول الحق تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

وقفة مع الهجرة النبوية

أيها الإخوة الكرام، نتأمل اليوم في ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، ذلك الحدث العظيم الذي غيّر مجرى التاريخ الإسلامي. كانت الهجرة نقطة تحول فاصلة، حيث انتقل المسلمون من مرحلة الدعوة السرية والضعف إلى مرحلة القوة والتمكين وإقامة الدولة الإسلامية.

لقد جاءت الهجرة بعد أن بذل النبي صلى الله عليه وسلم جهودًا مضنية في سبيل هداية أهل مكة وإقناعهم بالإسلام، ولكن دون جدوى. بل إنهم لجأوا إلى أساليب العنف والتضييق والاضطهاد لإخماد صوت الحق ومنع انتشار الإسلام.

وقبل الهجرة إلى المدينة المنورة، حاول النبي صلى الله عليه وسلم أن يجد حاضنة للدعوة الإسلامية في الطائف، لكن أهلها قابلوه بالصد والجفاء. كما عرض الإسلام على القبائل التي كانت تفد إلى مكة في موسم الحج، ولكن محاولات قريش لإعاقة هذا الأمر كانت مستمرة.

لكن الله عز وجل أراد لدينه أن ينتشر، فشاء أن يلتقي النبي صلى الله عليه وسلم بستة نفر من أهل يثرب، فاستجابوا لدعوته وآمنوا به، ثم عادوا في العام التالي وازداد عددهم، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، ثم تلاها بيعة العقبة الثانية التي كانت إيذانًا ببدء رحلة الهجرة.

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى يثرب، فهاجروا متفرقين ومستخفين، ولم يبقَ معه إلا قلة من المسلمين، وعلى رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه. كان أبو بكر يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فيأمره بالبقاء لعله يكون رفيقه في هذه الرحلة المباركة.

عندما رأى المشركون أن المسلمين يهاجرون إلى يثرب، وأن الإسلام ينتشر فيها، خافوا من أن يلحق بهم النبي صلى الله عليه وسلم ويجمع الأنصار حوله، فاجتمعوا وتآمروا على قتله، كما قال تعالى: (وَإِذ يَمكُرُ بِكَ الَّذينَ كَفَروا لِيُثبِتوكَ أَو يَقتُلوكَ أَو يُخرِجوكَ وَيَمكُرونَ وَيَمكُرُ اللَّـهُ وَاللَّـهُ خَيرُ الماكِرينَ).

لكن الله عز وجل حفظ نبيه صلى الله عليه وسلم وأنجاه من مكرهم، وأخرجه من بين أيديهم.

إن المتأمل في أحداث الهجرة يرى فيها دروسًا عظيمة في التوكل على الله والإعداد للأمور الدنيوية. فقد أعد النبي صلى الله عليه وسلم كل الوسائل المتاحة للهجرة، ولكنه في الوقت نفسه كان يعتمد اعتمادًا كليًا على الله عز وجل ويتضرع إليه بالدعاء.

ومن مظاهر الإعداد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه في وقت الظهيرة ليخبره بأمر الهجرة، وهو وقت قليل الحركة حتى لا يلاحظ أحد تحركاتهم. وقد جهز أبو بكر رضي الله عنه راحلتين لهذه الرحلة.

وعندما حان وقت الهجرة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينام في فراشه ليوهم المشركين بأنه ما زال في البيت. ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أيديهم وهو يذرو التراب على رؤوسهم، فأعمى الله أبصارهم عنه.

ومن الإعداد أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر عبد الله بن أريقط، وكان خبيرًا بالطرق في الصحراء، ليدلهما على الطريق المختصر إلى المدينة. واتجه النبي صلى الله عليه وسلم جنوبًا بدلًا من الشمال لكي يضلل المشركين. ومكث ثلاثة أيام في غار ثور حتى يخف الطلب عليهما.

وأمر عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما أن يبيت عندهما ويأتيهما بأخبار قريش. وكان عامر بن فهيرة رضي الله عنه يرعى غنم أبي بكر ويأتي إليهما بحليبها، ثم يتبع آثار عبد الله بن أبي بكر ليمحوها.

ومع كل هذه الإعدادات، وصل المشركون إلى باب الغار. ويصف لنا أبو بكر رضي الله عنهما هذا المشهد بقوله: (قُلتُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَنَا في الغَارِ: لو أنَّ أحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا).

وبعد ثلاثة أيام، خرج النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه ودليلهما في طريقهما إلى المدينة.

وفي الطريق، لحق بهما سراقة بن مالك طمعًا في الجائزة التي رصدتها قريش لمن يقتله أو يأسره. ولكن فرسه تعثرت به وسقط على الأرض، ثم ساخت أقدامها في الرمل، فأيقن أنه لن يتمكن منهما، فطلب الأمان فأمنه النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل إنه كتب له بسواري كسرى.

استمر الركب المبارك في طريقه حتى وصل إلى قباء في الثامن من ربيع الأول من السنة الرابعة عشرة من النبوة، وهي السنة الأولى من الهجرة. ومكث النبي صلى الله عليه وسلم في قباء بضعة أيام، ثم توجه إلى يثرب التي سميت بعد ذلك بالمدينة المنورة.

تأملات في الهجرة

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين، وبعد:

إن الهجرة النبوية تمثل نقطة تحول جوهرية في مسار الدعوة الإسلامية، حيث انتقلت من حيز الفكرة إلى واقع الدولة والمجتمع. وهذا ما جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتخذ من الهجرة بداية للتأريخ الإسلامي.

تجسدت في الهجرة أسمى معاني التوكل على الله، إذ لم يدخر الرسول صلى الله عليه وسلم وسعًا في الأخذ بالأسباب المادية، مع يقينه الراسخ بأن هذه الأسباب لا تؤتي ثمارها إلا بإذن الله وتوفيقه. وقد أظهر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم عظيم فضله وعنايته في أحلك الظروف، ليؤكد لكل مسلم أن العمل الجاد والاجتهاد المتواصل لا بد أن يقترنا بالتوكل على الله وانتظار مدده وعونه.

تضرع ودعاء

اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه يا أكرم الأكرمين، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه يا ربّ العالمين.

اللهم اجعلنا من عبادك المتوكلين عليك المعتمدين عليك في كل شؤونهم، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك ولا أكثر.

اللهم اجعلنا من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم الذين يطبقون سنته في كل صغيرة وكل كبيرة، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

المصادر

  1. سورة الحشر، آية: 18
  2. في الرحمن المباركفوري،الرحيق المختوم(الطبعة 1)، بيروت:دار الهلال، صفحة 113-155. بتصرّف.
  3. سورة الأنفال، آية: 30
  4. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبو بكر الصديق، الصفحة أو الرقم:3653، صحيح.
Total
0
Shares
اترك تعليقاً
المقال السابق

أهمية الكلام الحسن وأثره في الإسلام

المقال التالي

فضائل الإحسان إلى الوالدين

مقالات مشابهة