نشأة الغزل العفيف: جذوره التاريخية وأسباب التسمية

الغزل العفيف: استكشاف أصوله الجغرافية والتاريخية. نظرة على أبرز أعلامه وأمثلة من أشعاره الخالدة.

الأصول الجغرافية والتاريخية للغزل العفيف

يعتبر الغزل العفيف لونًا من ألوان الشعر الغزلي الذي ازدهر في العصر الأموي. وقد جاء كنتيجة طبيعية للتفاعل بين قيم الدين الإسلامي السمحة، التي تحث على الطهارة، والتعفف، وكتمان المشاعر، والتستر على النساء المؤمنات، وبين التراث الشعري العربي الذي يزخر بمضامين الحب والهيام.

بدأت البذور الأولى لهذا النمط الشعري في الظهور مع نهاية عهد الخلفاء الراشدين، إلا أنَّه لم يكتمل نموّه وتطوّره إلا في ظل الدولة الأموية. فقد نشأ وترعرع جيل تشبّع بتعاليم الإسلام وقيمه النبيلة، ولم يعرف عن الجاهلية وعاداتها وتقاليدها شيئًا.

كانت منطقة الحجاز هي المهد الذي انطلق منه هذا النوع من الغزل، وذلك لأسباب عديدة منها الاستقرار الاجتماعي والازدهار السياسي والاقتصادي، وانتشار مظاهر الترف واللهو، الأمر الذي أتاح للإنسان الانصراف إلى أمور أخرى غير تلك التي كانت تشغله في العصور السابقة من حروب وفتوحات وجهاد.

أما عن سبب تسمية هذا النوع من الغزل بـ “الغزل العذري”، فيرجع إلى أنّ أول ظهوره كان في قبيلة عذرة، وهي إحدى قبائل بني قضاعة. وقد عُرفت هذه القبيلة بهذا النمط الشعري لما تمتعت به من بيئة مواتية لظهوره، من وجود نساء فائقات الجمال ورجال يتميزون بالعفة والطهر. ويُعد عروة بن حزام من أوائل الشعراء الذين نظموا في هذا الفن. والجدير بالذكر أنَّ تسمية “الغزل العذري” هي تسمية حديثة أطلقها الباحثون والمختصون، ولم تكن معروفة في العصور القديمة.

أشهر شعراء الغزل العفيف

من بين الشعراء الذين ذاع صيتهم في الغزل العفيف:

قيس بن ذريح (تـ 68هـ)

هو قيس بن ذريح بن سنة بن حذافة الكناني، شاعر من العصر الأموي، كان رضيعًا للحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. اشتهر بغزله العفيف، وعرف بحبه الشديد للُبنى ابنة الحباب الكعبية. يتميز شعره بالرقي في تصوير الشوق والحنين والتشبيب.

كُثيّر بن عامر الخزاعي (تـ 105هـ)

هو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر الخزاعي، وكنيته أبو صخر، شاعر أمويّ من أهل المدينة المنوّرة، ولكنه قضى معظم حياته في مصر. عُرف بحبه لعَزَّة بنت جميل الضمرية. على الرغم من قصر قامته ودمامته، إلا أنه حظي بتقدير عبد الملك بن مروان بعد أن سمع شعره. وكان يعتبر شاعر الحجاز الأول في عصره.

جميل بن معمر (تـ 82هـ)

هو جميل بن عبد الله بن معمر العذري القضاعي، من شعراء العرب المتيّمين. اشتهر بحبه لبثينة، وهي من بنات قومه، وكانت منازلهم في وادي القرى بالقرب من المدينة المنورة. تتناول معظم أشعاره موضوعات النسيب والغزل والفخر. في أواخر حياته، وفد على عبد العزيز بن مروان والد الخليفة عمر، وأقام في مصر حتى وفاته.

نماذج من شعر الغزل العفيف

فيما يلي بعض الأمثلة التي تجسد خصائص الغزل العفيف:

قصيدة كثيّر “لعزة هاج الشوق”

يقول كثيّر في قصيدته:

لِعَزَّةَ هاجَ الشَوقَ فالدَمعُ سافِحُ
مَغانٍ وَرَسمٌ قد تَقادَمَ ماصِحُ
بِذي المَرخِ وَالمَسروحِ غَيّرَ رَسمَها
ضَروبُ النَدى قَد أَعتَقَتها البَوارِحُ
لِعَينيكَ مِنها يومَ حَزمِ مَبَرَّةٍ
شَريجانِ مِن دَمعٍ نَزيعٌ وَسافِحُ
أَتيٌّ وَمَفعومٌ حَثيثٌ كَأَنَّهُ
غُروبُ السَواني أَترَعَتها النَواضِحُ
إِذا ما هَرَقنَ الماء ثُمَّ اِستَقينَهُ
سَقاهُنَّ جَمٌّ مِن سُميحَةَ طافِحُ
لَيالي مِنها الوادِيانِ مَظِنَّةٌ
فَبُرَقُ العُنابِ دارُها فَالأَباطِحُ.

قصيدة قيس بن ذريح “بانت لُبينى”

يقول قيس بن ذَريح في قصيدته:

بانَت لُبَينى فَهاجَ القَلبُ مَن بانا
وَكانَ ما وَعَدَت مَطلاً وَليّانا
وَأَخلَفَتكَ مُنىً قَد كُنتَ تَأمُلُها
فَأَصبَحَ القَلبُ بَعدَ البَينِ حَيرانا
اللَهُ يَدري وَما يَدري بِهِ أَحَدٌ
ماذا أَجَمجَمُ مِن ذِكراكِ أَحيانا
يا أَكمَلَ الناسِ مِن قَرنٍ إِلى قَدَمٍ
وَأَحسَنَ الناسِ ذا ثَوبٍ وَعُريانا
نِعمَ الضَجيعُ بُعَيدَ النومُ تَجلُبُهُ
إِلَيكَ مُمتَلِئً نَوماً وَيَقظانا
لا بارَكَ اللَهُ فيمَن كانَ يَحسَبُكُم
إِلّا عَلى العَهدِ حَتّى كانَ ما كانا
حَتّى اِستَفَقتُ أَخيراً بَعدَما نُكِحَتكَ
أَنَّما كانَ ذاكَ القَلبُ حَيرانا.

قصيدة جميل بن معمر “أرى كلّ معشوقين”

يقول جميل بن معمر في قصيدته:

أَرى كُلَّ مَعشوقَينِ غَيري وَغَيرُها
يِلَذّانِ في الدُنيا وَيَغتَبِطانِ
وَأَمشي وَتَمشي في البِلادِ كَأَنَّنا
أَسيرانِ لِلأَعداءِ مُرتَهَنانِ
أُصَلّي فَأَبكي في الصَلاةِ لِذِكرِها
لِيَ الوَيلُ مِمّا يَكتُبُ المَلَكانِ
ضَمِنتُ لَها أَن لا أُهيمَ بِغَيرِها
وَقَد وَثِقَت مِنّي بِغَيرِ ضَمانِ
أَلا يا عِبادَ اللَهِ قوموا لِتَسمَعوا
خُصومَةَ مَعشوقَينِ يَختَصِمانِ
وَفي كُلِّ عامٍ يَستَجِدّانِ مَرَّةٍ
عِتاباً وَهَجراً ثُمَّ يَصطَلِحانِ.

المصادر والمراجع

  • أبتشكري فيصل،تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام، صفحة 226 – 239. بتصرّف.
  • كريم قاسم جابر الربيعي،الغزل العذري حتى نهاية العصر الأموي أصوله وبواعثه وبنيته الفنية، صفحة 3 – 6. بتصرّف.
  • الزركلي،الأعلام، صفحة 205 – 206. بتصرّف.
  • الزركلي،الأعلام، صفحة 219. بتصرّف.
  • الزركلي،الأعلام، صفحة 138. بتصرّف.
  • “لعزة هاج الشوق فالدمع سافح”, الديوان, تم الاطلاع عليه بتاريخ 1/2/2022.
  • “بانت لبينى فهاج القلب من بانا”, الديوان, تم الاطلاع عليه بتاريخ 1/2/2022.
  • “أرى كل معشوقين غيري وغيرها”, الديوان, تم الاطلاع عليه بتاريخ 1/2/2022.
Total
0
Shares
اترك تعليقاً
المقال السابق

الشعر الغزلي الجريء في العصر الأموي

المقال التالي

قيس بن ذريح: نظرة في خصائص وميزات شعره العذري الفنية والجمالية

مقالات مشابهة