تمهيد: تقديري لوطني
الوطن العزيز هو الأرض الطاهرة التي شهدت ميلادنا ونشأتنا، وترعرعنا على ترابها المبارك. إنه الملاذ الأول والأخير، والحصن الآمن لكل أبنائه. تعجز كلماتي عن وصف حبي له، وتتضاءل تعبيراتي أمام عظمته وشموخه. يا وطني، أنت تعانق السماء بعظمة لا تضاهيها عظمة، وحب الأوطان هو الدم الذي يجري في عروقنا، والنبض الذي يحيي قلوبنا.
قد يعشق الإنسان السفر لبضعة أيام، أو قد تستهويه روح المغامرة، لكنه سرعان ما يعود باحثًا عن حضن وطنه الدافئ، ليرتمي فيه ويستريح من عناء الغربة. فالوطن لطالما حمل آلامنا وآمالنا، ورغباتنا وأحلامنا. فهل بعد هذا الحب من كلام؟ وهل بعد هذه المشاعر من سؤال؟ لا والله، لقد تبعثرت أجزائي وروحي في ثنايا وطني حبًا وعشقًا.
وفي هذا السياق، لا يسعني إلا أن أستحضر كلمات الشاعر أحمد شوقي، وهو يصف حبه لوطنه، مسطرًا مشاعر العاشق الولهان بكلمات من ذهب:
وَطَنٌ يَرُفُّ هَوىً إِلى شُبّانِهِ
كَالرَوضِ رِفَّتُهُ عَلى رَيحانِهِ
هُم نَظمُ حِليَتِهِ وَجَوهَرُ عِقدِهِ
وَالعِقدُ قيمَتُهُ يَتيمُ جُمانِهِ
يَرجو الرَبيعَ بِهِم وَيَأمَلُ دَولَةً
مِن حُسنِهِ وَمِنِ اِعتِدالِ زَمانِهِ
لطالما ترددت هذه الكلمات والقصائد على مسامعنا، ونحن طلاب في المدارس والجامعات، وحفظ الكثير منا أبياتًا منها، لنعبر بها عن حب الوطن، والاشتياق إليه. لطالما سمعنا كلمات رنانة كالأرض، والشرف، والحنين، والحب، والشوق، وغيرها من الكلمات الصاخبة التي قد لا نعي معناها، ولكن لو فارق أحدنا أرض وطنه يومًا، لأصبح ضحية لتلك الكلمات التي ما استطاع يومًا أن يفهمها ويشعر بها، ولبقي في غربته كفريسة وقعت في شراك الحب والحنين لهذا الوطن.
الجوهر: وطني هويتي ومصيري
إن حب الوطن ليس مجرد كلمات تقال، ثم تغيب لتحل محلها المصالح الشخصية والأطماع، بل هو شعور متأصل في القلوب، مغروس في الأعماق كنبتة حية تنمو يومًا بعد يوم، يغذيها شعور الانتماء، والإيمان بأن الوطن هو الماضي والحاضر والمستقبل.
الوطن يحمل في هوائه وترابه وشمسه ذكرياتنا ولحظاتنا الجميلة التي عشناها على أرضه. لقد شهدت شمسه دموعنا وابتساماتنا، فكيف لوطن يحمل هذا الماضي أن يغيب عن الذاكرة؟ وكيف لا يكون الوطن ماضينا وقد اختلطت ذرات ترابه برفات آبائنا وأجدادنا؟
هناك شعور قوي يجذبنا للوقوف باكيين على حدود الوطن ونحن نغادره، وما هذا إلا لأننا نترك وراءنا ماضينا وذكرياتنا. ولا يغيب عن بالنا وقفات النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- على جبل أمام مكة المكرمة، ودموعه تسيل وهو يودعها متذكرًا ما عاشه على أرضها، فيودعها بكلمات تعجز أي لغة أن تضاهيها، فيقول -عليه الصلاة والسلام-:
“واللهِ إنك لخيرُ أرضِ اللهِ وأحبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ ولولا أني أُخرجتُ منك ما خرجتُ”
هذا الحديث الشريف يعلمنا حب الوطن والتعلق به وبماضيه.
الوطن ليس أيامًا وذكريات مضت فقط، وإنما هو أمل الشباب ومستقبلهم. كيف لا يكون ذلك وهو يحتضن آمالهم وخططهم التي سيبنونها على أرضه؟ فالوطن هو مستقبل لكل أبنائه الذين شربوا من مياهه الطاهرة. وحق الوطن على الجميع أن يهبوا لبنائه وتطويره. فالوطن ليس شخصًا أو مجموعة أشخاص، وإنما هو حدود وتراب، وأرض وهواء، وماضٍ ومستقبل لكل من يعيش فيه. وقد قال أحد الشعراء:
مَجدُ البِلادِ بِالشَبابِ العاملين
وَالاجتهاد لِلعُلى نَهجٌ مُبينه
هِبّوا إِذنوَاِجنوا الثَمَن عزّ الوَطَن
الوطن ليس مجرد كومة من التراب، بل هو ذاك الانتماء إلى تلك البقعة الصغيرة على الخريطة التي شاء القدر أن ننتمي إليها. فالوطن وما يحمله من ماضٍ وآمال هو رفيقنا الدائم أينما كنا.
حتى لو نسينا أنفسنا يومًا بعيدًا عن وطننا، لسألنا الناس عن أصلنا، ولو كنا في قطار أو طائرة، لدلت ملامحنا على البلد الذي ننتمي إليه. ومهما طالت الأيام، سنحن إلى ماضٍ قضيناه في حضن وطننا، وسنبحث عن المطاعم التي تحمل عبق الوطن ورائحته.
فهل سنجد أذنًا صاغية لتلك الترهات التي يطلقها أولئك الذين باعوا وطنهم بحفنة من المال؟ لا وألف لا.
وطني كما أتمناه
الوطن كالأم التي لا تدخر جهدًا لإسعاد أبنائها، ودائمًا ما نتمنى لها السعادة والعزة والكرامة، والحرية والاطمئنان والعيش بسلام وأمن وأمان. هذا ما نتمناه لوطننا: أن نراه في الصفوف الأولى، مزاحمًا الدول على شارات الشرف والرقي والتطور. نتمنى له أن يحيا حرًا أبيًا لا تطاله يد ظالم، وأن يرفرف علمه فوق سمائه دون خوف أو وجل.
أتمنى أن أسطر اسم وطني في سماء التاريخ براقًا ساطعًا يطفئ أبصار الأعداء. أتمنى لو أستطيع أن أطهر ترابه من كل دنس، وأقطع يمين كل من أراد به سوءًا. وأعاهدك يا وطني أنني سأعمل كي أحول تضحياتك وتاريخك إلى سيمفونية موسيقية يتغنى بها الجميع، وسأراك يومًا وسام شرف يزين صدر الأيام. ولكن كل هذه الأماني لا تذكر أمام أمنيتي العظيمة لك، وهي أن أراك وقد عانقت بحضنك الدافئ أبناءك الذين أجبرتهم يد الظلم على الفرار بعيدًا.
لكي نرى وطننا كما نتمناه، علينا أن نكون يدًا واحدة تعمل وهي واضعة نصب عينيها تلك الأماني. فوطننا يستحق ما سنقدمه له بعد ما قدمه لنا من أمان واطمئنان وهويّة.
الخلاصة: وطني منبع التضحيات
من يقدم لنا معروفًا، من واجبنا أن نرده إليه أضعافًا مضاعفة، فكيف إذا كان من قدم لنا هذا المعروف هو الوطن؟ فاعلم يا وطني العظيم أنك لست قطعة جغرافية على خارطة العالم، بل أنت الأرض المقدسة التي زرعت في قلوبنا، لأنك أرض التضحيات والفداء، ولأن ذرات ترابك قد امتزجت بدم الآباء والأجداد الذين قدموا أرواحهم مهرًا لك ودفاعًا عن حدودك. فأنت يا وطني ستبقى على مر العصور أرض التضحيات، ووسام الشرف على جبين الأيام.
يجب على كل ابن لهذا الوطن أن يقدر التضحيات التي بذلها لينعم أبناؤه بالأمان والاستقرار، وأن يرفع علم وطنه عاليًا. ما بين الابن البار الذي يحتضن وطنه في ضعفه، وما بين الابن العاق الذي يترك وطنه فريسة للأعداء فرق شاسع.
الدموع تترقرق من عيني كل غريب شوقًا لوطنه، وحبًا لترابه، وعشقًا لرائحته التي نافست أغلى العطور. فمهما بحث الإنسان عن عطر يحيي ذكرى وطنه، لن يجد تلك الرائحة التي تفوح عند آخر خط من حدود الوطن. هل سنجد إنسانًا ينكر قيمة وطنه أو يجحد عطاياه؟ لا، بل سنكون جميعنا أبناء بررة له، فليدم عزيزًا قويًا يا وطني.
لمزيد من المعلومات، انظر هنا: مقال موجز عن الوطن.
المراجع
- “وطن يرف هوى إلى شبانه”،الديوان
- رواه ابن حزم، في المحلى، عن عبدالله بن عدي بن الحمراء، الصفحة أو الرقم:289، الحديث في غاية الصحة.
- “قصيدة مجد البلاد”،الديوان