تمهيد المقالة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام، واختارنا لِنكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. إنّ التوبة هي مفتاح الفلاح، وباب الرحمة الذي فتحه الله لعباده ليعودوا إليه كلما ضلوا الطريق. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
تذكير بأهمية خشية الله
أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل في السر والعلن. فالتقوى هي وصية الله للأولين والآخرين. وتذكروا أن التقوى هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه. قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّـهَ).
الجزء الأول من المقالة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي يغفر الذنوب ويتوب على من أناب إليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها الإخوة، إن التوبة هي الرجوع إلى الله بعد الابتعاد عنه. قال ابن القيم رحمه الله: “أكثر الناس لا يعرفون قدر التوبة، ولا حقيقتها فضلا عن القيام بها، علماً وعملاً وحالاً، مع أنّ التوبة هى حقيقة دين الإسلام، والدين كله داخل في مسمى التوبة، من أجل ذلك استحق التائب أن يكون حبيب الرحمن -جل وعلا-، فأصل التوبة فى اللغة الرجوع يقال: تاب وآب وثاب بمعنى رجع، فالتائب إلى الله هو الراجع عن كل ما يكرهه الله ظاهراً وباطناً، إلى كل ما يحبه الله ظاهراً وباطنا”.
أوصيكم بالمسارعة إلى التوبة والاستغفار، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلى اللهِ، فإنِّي أَتُوبُ في اليَومِ إلَيْهِ مِئَةَ مَرَّةٍ).
إن التوبة هي دواء القلوب، فما أشد حاجة قلوبنا المريضة بالذنوب إلى هذا الدواء العظيم. فالله تعالى يفتح لنا بفضله باب الرجاء والأمل، وهو الغفور الرحيم الذي ينتظر عودة عباده التائبين. قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا).
فلنقف بين يدي الله منكسرين، معترفين بذنوبنا وتقصيرنا، سائلين رحمته ومغفرته. فليس لنا رب سواه يقبل توبتنا ويرحمنا. فالله الله في التوبة النصوح، فهي الخلاص والنجاة. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّـهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلُكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).
وللتوبة النصوح شروط ثلاثة أساسية: الإقلاع عن الذنب، والندم عليه، والعزم على عدم العودة إليه. فالإقلاع عن الذنب يعني تركه نهائياً، والندم عليه يعني الشعور بالحزن والأسف على فعله، والعزم على عدم العودة إليه يعني اتخاذ قرار جاد بعدم تكرار هذا الذنب في المستقبل.
إن التوبة امتثال لأمر الله تعالى، قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّـهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). فالتوبة سبب لنيل محبة الله ورضوانه، والله يحب التوابين والمستغفرين. فلنتُب إلى الله لنُغيظ الشيطان، ونُخزي الأعداء، ونُبيض صحائفنا يوم القيامة.
باب التوبة مفتوح على مصراعيه لكل من أراد العودة إلى الله. قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). وقال تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّـهَ يَجِدِ اللَّـهَ غَفُورًا رَّحِيمًا).
فلنستشعر مراقبة الله لنا، ولنعترف بذنوبنا، ولنُقبل على الله بالتوبة النصوح. فالتوبة سبب للسعادة والخير، وبها يحفظ الله أعمالنا الصالحة، ويُكفر عنا سيئاتنا، ويدفع عنا العقوبات.
قصص التائبين مليئة بالعبر والدروس. نتذكر قصة سيدنا آدم عليه السلام الذي تاب إلى الله بعد أن أكل من الشجرة، فتاب الله عليه وغفر له. ونتذكر قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وكيف أن الله قبل توبتهم بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت. وأيضا، قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم أراد التوبة، فدلّه الناس على عالم، وحين وصل إليه وسأله هل تُقبل توبتي إلى الله بعد ما فعلت؟ فقال له العالم: “وما الذي يحول بينك وبين التوبة إلى الله؟”، وأرشده إلى بلاد لِيعيش بها مع أناس يعبدون الله ويتقونه، وحين سار هذا الرجل لهذه البلاد وافته المنية وجاءت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب لِيعرفون أين سجله، فملائكة العذاب تقول بإنّه لم يفعل خيرًا قط، وملائكة الرحمة تقول إنّه جاء لله تائبًا، فأرسل الله -سبحانه وتعالى- إليهم ملّكًا على هيئة إنسان لِيحكم بينهم، وأمرهم بقياس المسافة بين بلدته التي خرج منها والبلد التي كان متجهًا إليها لِعبادة الله، فكان الرجل أقرب للبلدة الصالحة التي كان متجهًا إليها، وبهذا فقد أخذته ملائكة الرحمة، فقد تاب الله عليه.
القسم الثاني من المقالة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
أيها المسلمون، يجب علينا أن نخلص النية لله في توبتنا، وأن يكون الدافع وراءها هو حب الله وتعظيمه، والخوف من عقابه، والطمع في ثوابه. فمن أخلص لله أعانه الله ووفقه، وصرف عنه الذنوب والخطايا.
اعلموا أن الله لا يقبل التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها، فبادروا بالتوبة قبل فوات الأوان. فالتوبة تمحو الذنوب والخطايا، وتبدل السيئات حسنات. فمن تاب إلى الله وآمن وعمل صالحاً، فإن الله يبدل سيئاته حسنات، ويبشره بمغفرة وأجر عظيم.
الدعاء
اللهمَّ اغفر لنا، وارحمنا، وارض عنا، وتقبل منا، وأدخلنا الجنة ونجنا من النار، وأصلح لنا شأننا كله.
اللهمَّ إن مغفرتك أوسع من ذنوبنا، ورحمتك أرجى لنا من أعمالنا، سبحانك لا إله غيرك، اللهمّ أصلح لنا أعمالنا.
اللهمَّ إنك تغفر الذنوب لمن تشاء وأنت الغفور الرحيم، يا غفار اغفر لنا، يا تواب تب علينا، يا رحمن ارحمنا، يا عفو اعف عنا.
اللهمَّ إنّا نستغفرك من كل ذنب يعقب الحسرة، ويورث الندم، ويحبس الرزق، ويرد الدعاء.
اللهمَّ اغفر لنا ذنبنا مغفرة ننسى بها كل شيء سواك، وهب لنا تقواك، واجعلنا ممن يحبك ويخشاك.
اللهمَّ بعلمك الغيب، وقدرتك على الخير، وفقنا إلى التوبة النصوح يا رب العالمين، اللهم واجعل توبتنا إليك توبة صحيحة، لا عودة بعدها إلى الذنوب.
اللهمَّ اجعلنا من التائبين لك القانتين لك، المخبتين إليك، واجعلنا من الأواهين المنيبين التوابين، واغفر ذنوبنا واغسل حوبتنا، اللهم اسلل من نفوسنا سخام الخطايا والذنوب والشرك.
اللهمَّ إنّي أَسْتَغْفِرُكَ لِكُلِّ ذَنْبٍ تُبْتُ إِلَيْكَ مِنْهُ ثُمَّ عَاوَدْتُهُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِكُلِّ شَيْءٍ جَعَلْتُهُ لَكَ خَالِصًا عَلَى نَفْسِي ثُمَّ لَمْ أَفِ بِهِ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِكُلِّ عَمَلٍ عَمِلْتُهُ أَرَدْتُ بِهِ وَجْهَكَ فَخَالَطَهُ مَا لَيْسَ لَكَ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا دَعَانِي إِلَيْهِ الْهَوَى مِنْ قَبُولِ الرُّخَصِ فِيمَا أَتَيْتُهُ.
اللهمَّ إني أستغفرك لكل ذنب يميت القلب، ويشعل الكرب، ويشغل الفكر، ويرضي الشيطان، ويسخط الرحمن، اللهم إني استغفرك لكل ذنبٍ يكون في اجترائه قطع الرجاء، ورد الدعاء وتوارد البلاء، وترادف الهموم، وتضاعف الغموم، يا رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف الخلق سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المصادر
- القرآن الكريم
- صحيح مسلم
- كتب التفسير