مقالة حول مفهوم الانتماء والوطن (لطلاب المرحلة المتوسطة)

الوطن: قطعة من الروح. الوطن: تاريخ وحضارة. الوطن: مستقبل الأجيال. الأوطان تزدهر بتضحيات أبنائها. وطني هو حبي الأول والأخير.

أرضي كنز ثمين

الوطن هو الكلمة الأولى التي تعلمت حبها منذ الصغر، لطالما نسجت حولها الأحلام منذ الطفولة المبكرة. عندما كنت في السادسة من عمري، كنت أجلس دائمًا تحت شجرة الزيتون مع جدتي، التي لم تكن تعرف من معاني الوطن إلا حب الأرض التي ترعرعت عليها. كانت دائمًا تقول لي “الوطن أرض ذهبية”، لم أكن أفهم معنى هذه الكلمة في ذلك العمر، وما معنى الذهب أصلًا، وكيف يمكن أن تتساوى قيمة التراب بالذهب. الآن، ألمس التراب بيدي دائمًا، ولكني لم ألمس الذهب حتى الآن.

ربما كانت المفاهيم غير مكتملة بعد، ولكن الحب كان متأصلًا منذ البداية. دائمًا كنا نستمد حب أرضنا من طعامنا وشرابنا، وعندما يريد أحدنا أن يفتخر، كان يفتخر باتساع أرضه وخصوبتها. ولكن عندما تجاوزنا السادسة إلى التاسعة والعاشرة، علمنا أنه لا قيمة لأرض أحدنا ما لم يكن للآخر مثلها، فنحصدها ونزرعها ونتبادل بين بعضنا حب الوطن كما نتبادل كأس الشاي تحت ضوء القمر.

كنت صغيرًا وأنا ألعب في ساحات أرضنا في البستان الذي قرر جدي أن نظل نأكل من خيراته، لا أن نبيعه ونأكل ثمنه، فنكون كمن باع ذاكرته في سوق النخاسة للآخرين. إن أرضنا كانت هي المفهوم الأول الذي نما عندي، محققًا المفهوم الأكبر في نفسي وهو الوطن، ذلك الشيء الذي لا يمكن أن يلقن الإنسان محبته، لأنه رضعها من ثدي أمه مع اللبن الأبيض، فامتزجا معًا حتى صارا كالشيء الواحد الذي لا يمكن أن ينفصل. الآن بتّ أفهم حقًا ما معنى وطني أرض ذهبية، إذ لو أحسن الإنسان استثمار أرضه ووطنه لكان أغلى من معدن أصفر لا يعدو بريقه أن يأخذ الألباب لبضع من الساعات، ثم يكون والصخر اللامع كالشيء الواحد لا يمكنه أن يقدم خيرًا من تلقاء نفسه.

الوطن: خريطة القلوب

عندما كبرت قليلًا وصرت في آخر المرحلة الابتدائية في الصف السادس، كان درسنا الأول عن قصيدة لشاعر عانى من ألوان الغربة ما عانى، ولم يجد لقاء وطنه إلا في بعض من الكلمات ينسجها ما بين الحين والآخر وهو يواسي نفسه بها، سائلًا الآخرين ألّا يغادروا أوطانهم ولا يكون الأخير لهم كفندق إن ساءت الخدمة فيه استبدلوه بآخر. حينها أجزم أن تلك الكلمات كانت كبيرة على عقلي الصغير، واستعصى على فهمي المتواضع استيعاب تلك المعاني العظيمة، كيف للإنسان ألّا يغادر أرضًا بات البقاء فيها صعبًا بالنسبة إليه وهي تسيء إليه أكثر مما تحسن.

لو تمعنت في الشمس الأصيلة التي تطل في كل يوم على نافذة غرفتي الخشبية لعلمت المعنى الذي أراد الشاعر أن يهبه لنا دون أن نقاسي من ألوان الغربة ما قاساه هو، وما أسعدني حين وضعت يدي على وطني لما كان معلم الجغرافيا يدلنا على وطننا، نعم كنت أسكن بالبقعة الصغيرة تلك أنا وعائلتي وأمي وأبي وأغنامنا وماشية جيراننا وكل ما يخص هذه القرية المتواضعة، لقد استطاع ذلك الوطن العظيم على تواضع مساحته أن يحتضننا وذاكرتنا التي ما تخلت في يوم من الأيام عنه، نعم أيها الوطن أنت خريطة القلب التي نسعى دائمًا لأن نحميك بأهدابنا، ولو أردت في يوم من الأيام أن تحصد الأرواح لأجل حفظك لما توانينا عن ذلك برهة من الزمن.

لو سأل الإنسان نفسه ترى ماذا يعني الوطن بالنسبة إليه فماذا ستكون إجابته؟ ربما كان الوطن بالنسبة إلى أحدهم بيت آمن ينعم بهنائه مع زوجه وأولاده فيتبادلون فيه الحكايا التراثية في كل ليلة، ولربما كان الوطن بالنسبة إلى غيرهم حدودًا يدافعون عنها في كل حين فيقفون أمام المعتدي بالصدور العارية ويذودون عنه، وربما كان الوطن بالنسبة لآخر شمعة وضاءة يستقي منها الأمل مع كل ليلة يخلد فيها إلى الفراش، ولكن أيًا يكن فلا اختلاف على أن الوطن هو بوصلة لقلب الجميع.

في ربوع وطني تتسع المحبة

كيف يمكن للحب أن يحيا بلا قلب ينبض من أجله في كل وقت وحين؟ كيف يمكن للوطن أن يكون قلبًا حانيًا بالنسبة إلى الجميع؟ فكل ساكن أرض يتغنى بأرضه، وهو يرى الشمس على نافذة بيته أحسن منها على أي نافذة على وجه هذه البسيطة، وهو يرى صوت الديك في كل صباح كأنه يشدو آية من الذكر الحكيم تصدح في أرجاء الأرض معلنة أن هذا الوطن لا مثيل له. لقد أبدع ابن الرومي لما قال في حب الوطن:

ولي وطنٌ آليت ألا أبيعَهُ *** وألا أرى غيري له الدهرَ مالكًا
عهدتُ به شرخَ الشبابِ ونعمةً *** كنعمةِ قومٍ أصبحوا في ظِلالِكا
فقد ألفَتْهُ النفسُ حتَّى كأنه *** لها جسدٌ إن بانَ غودِرْتُ هالكَا
وحبَّب أوطانَ الرجالِ إليهمُ *** مآربُ قضَّاها الشبابُ هنالكا
إذا ذكروا أوطانَهُم ذكَّرتهمُ *** عُهودَ الصبا فيها فحنّوا لذلكا

الله در ابن الرومي لما استطاع أن يختزل حب الوطن ببضع من الكلمات باتت خالدة منذ العهد العباسي وحتى هذه اللحظة. إن الوطن لا يذكرني إلا بقلب أمي التي لها عشرة من الأبناء ولا تميز أحدهم عن الآخر على الإطلاق، فإذا ما جاع الأول أطعمته من فيض دموعها، ولو جاع الثاني لأكملت له من دمائها. الوطن هو المثال الأعظم لحالة الأم مع أبنائها، فلو قصرت الأم في يوم من الأيام عن إطعام أبنائها ما يشاؤون فهل يكون ذلك مبرر لأن يغادروها أو يعرضوا عنها؟

كنت صغيرًا وكنت أرسم خارطة وطني على شكل قلب وأحدد منزلي على موقع ذلك القلب وتلك الخارطة، وكانت مائدة الطعام في بيتنا تتسع لنا ولأبناء جيراننا وتفاحة واحدة كفيلة أن تطعم قبيلة ما دام اقتسامها باسم الحب والوفاء. كنا دائمًا نصنع أرغفتنا على نار الشوق لجلوس العائلة حول المائدة اللطيفة التي تتسعنا دائمًا وأهالينا وجيراننا حتى البيت السابع من الزقاق الذي نسكن فيه، لقد تعلمنا على أرض وطني كيف نقتسم الحب معًا من خلال زجاجة من العصير نتقاسمها فيما بيننا حتى إذا بقي فيها القليل آثر كل واحد منا صديقه على نفسه، هكذا كنا ندرس في مدرسة الحب على أرض وطننا.

رقي الأمم ببناء الأجيال

إن حب الوطن لا يكون كلمة يتغنى بها الإنسان ليلًا مع نهار، إن معنى حب الوطن هو أن يتقن الإنسان بناء ذلك الوطن، إذ إن حب الأرض ليس شعارًا يتغنى به الإنسان وينسج حوله القصائد الوردية التي يغنيها بالمحافل ثم ما يلبث أن ينتهي ذلك الحفل وينزل عن الخشبة البنية لينسى كل ما كان قد تغنى به. إن الوطن يحتاج إلى أجيال تعمد إليه فتنتشله من الهاوية التي يسعى الأعداء دائمًا أن يوقعوه بها، إن حب الوطن يعني أن يتقن الإنسان عمله حتى يتمكن من رفع سوية وطنه على مستوى العالم فلا يبقى ذلك المتأخر الذي لا يأبه إليه أحد.

إن الشعوب التي تعشق أوطانها تسعى جاهدة لأن تكون متحدة لا يقف في وجه اتحادها طائفة ولا عرق ولا لون، فيكون الأخ لأخيه كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى سهر له الآخر فيداويه ويطببه. لابد للجيل أن يكون واعيًا لتلك الخوارزمية العظيمة التي قد أضحى الناس أقرب إلى نسيانها فباتت القلوب مشتتة وكل أحد منهم يقول ربي أسألك نفسي، فبات الوطن ضعيفًا متهاويًا يسعى دائمًا إلى يد غريبة تساعده على النهوض والوقوف.

لذلك كان لابد على الأبناء أن ينتفضوا وينفضوا عن ذواتهم غبار الانكسار والذل، وأن يتعلموا حتى يكون علمهم سلاحًا في وجه أعداء الأرض، فلا يتمكن منهم أي أحد، ويكون كل إنسان فاعل في مجاله الذي ينتمي إليه، فالفلاح يعمد إلى الغرسة فيضعها في الأرض حتى تزدهر دنيا الوطن فتمثر وتطعم الجائع وتعين المحتاج، والمدرس يسهم في بناء وطنه من خلال العقول التي أودعها الله أمانة بين يديه فينشئها على حب الأوطان والإتقان في الأعمال والسعي والاجتهاد وبذل الجهد من أجل النجاح.

المهندس يسعى في بناء الوطن من خلال تشييده للأبنية العظيمة الشاهقة التي تعكس حضارة البلد وفنه، فيكون كل بناء أشبه بلوحة فنية خطها بيكاسو لتكون آية لمن بعده من الأجيال. الوطن هو الأم الحانية التي قدمت إلينا في شبابها كل ما تملك من ألوان الحنان والأمان، فإذا ما كبرت واحتاجت يدًا قوية لمساعدتها لا يجدر بنا أن نتخلى عنها على الإطلاق، وكل إنسان يستطيع أن يخط نجاح وطنه من المكان الذي قدر له الله تعالى أن يكون فيه، فلا يبقى للفشل مكان على هذه الأرض المعمورة بإذن الله.

Total
0
Shares
اترك تعليقاً
المقال السابق

مقالة حول حب الوطن والانتماء إليه

المقال التالي

مقال عن الوطن (للمرحلة الابتدائية)

مقالات مشابهة

نظرة في كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه

استعراض لمحتويات كتاب العقد الفريد لأحمد بن عبد ربه، مع تسليط الضوء على أهم أبوابه ومواضيعه التي تتناول السلطة، الحروب، الكرم، الوفود، العلم، الأدب، الأمثال، المواعظ، النسب، الشعر، وغيرها.
إقرأ المزيد