الوطن: إدراك بالحواس قبل كل شيء
الوطن ليس مجرد قطعة أرض، بل هو خليط من المشاعر والأحاسيس التي تنمو معنا منذ نعومة أظفارنا. هو الحنطة التي تغذي أرواحنا، والسماء الصافية التي تمنحنا البصيرة، وزقزقة العصافير التي تطرب مسامعنا، وحضن الأم الدافئ الذي يمنحنا الأمان. في هذا الكيان، نتشبث بالأحلام والطموحات كما نتشبث بفراشة ملونة، نلاحقها بشغف، ونستمتع بجمالها ورشاقتها وألوانها الزاهية. هكذا تتفتح الأحلام في قلوبنا، ترعاها أزهار الحدائق الغناء، وتحملها حقائب مدرسية عتيقة، وتسير بها في دروب الحياة الوعرة.
الانتماء الحقيقي: بالأفعال لا بالشعارات
لا يقتصر الانتماء إلى هذا الكيان على كتابة القصائد الحماسية، وترديد الأناشيد الوطنية، ورفع الأعلام عالياً. إن حب هذا الكيان هو فعل يومي نمارسه في كل لحظة، من خلال سلوكنا وأخلاقنا وثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا. هذا الكيان هو مهوى القلوب، ومجرى الدماء، ومكان يستحق منا التضحية والفداء والعطاء، وجدير بالفخر والاعتزاز. هو الكيان الذي ندين له بحياتنا التي قضيناها بين ربوعه.
نتعلم في مدارسه وجامعاته، ونكسب رزقنا وقوت يومنا في مؤسساته، ونشيخ بين أهله، وننعم بخيراته. ألا يستحق منا هذا الكيان أن نخلص له في محبتنا، وأن نصدق معه في فدائنا؟ أن نقدم في سبيله أغلى ما نملك، وأن نضحي بأنفسنا وأرواحنا في سبيل الدفاع عنه؟
كما أن الانتماء إلى هذا الكيان يعني أن نفهم تاريخه، وأن نحترم حضارته وثقافته، وبالتالي نفخر به ونعتز به، ونسعى لبنائه ونعمل من أجل ازدهاره ورفعته، وندافع عنه في وجه كل معتد غاصب، ونهب لنجدته عند الحاجة. فالتاريخ الوطني يتشابك مع التاريخ الشخصي للأفراد، نتأثر بأحداثه ونؤثر فيه، يؤلمنا ما يؤلم هذا الكيان، ويفرحنا ما يزيدها رفعة وجمالاً.
نتعلم الإخلاص لهذا الكيان بالأفعال لا بالأقوال من خلال السيرة النبوية العطرة، والتي تعلمنا منها حب الأرض، فالرسول الكريم-صلى الله عليه وسلم- أحب مكة المكرمة موطنه حبًا كبيرًا، إذ قال فيها بعد الهجرة: “والله إنّك لأحب أرض الله إلي، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أنّ أهلك أخرجونى منك قهرًا ما خرجت”.
الوطن القوي: مصدر فخر واعتزاز
حب هذا الكيان يتجلى في صدق المشاعر التي تنتج عنها أفعال كثيرة تدل على الانتماء والولاء له، مثل الصدق والأمانة والخوف عليه، بالإضافة إلى المحافظة على مقدراته، والافتخار بإنجازاته. فكل واحد فينا يريد أن يكون هذا الكيان قويًا، ولا يكون ذلك إلا بالعلم والحضارة والفكر والثقافة، إلى جانب الاستعداد للعطاء والالتزام بالقوانين والأنظمة.
في ضوء ما سبق، من الواجب على كل المواطنين أن يعاهدوا هذا الكيان بالمحافظة عليه، وبذل الغالي والنفيس في سبيل رفعته وتقدمه. يقول أحد الشعراء:
وطني اُحِبُكَ لا بديل
أتريدُ من قولي دليل
سيظلُ حُبك في دمي
لا لن أحيد ولن أميل
لا بديل عن حب هذا الكيان
في الختام، لا بديل عن حب هذا الكيان، فهو متجذر في القلب، وهو الأصل والأساس والمرجعية، وليس ادعاءً أو مثاليةً، فأفديه بقلبي وروحي ودمي، فهو أمني وحريتي وسكينتي، ولا أجد الراحة الحقيقة إلا به، ففراقه صعب عليّ؛ لأنّه أعز ما أملك.