مقدمة حول فن الخطابة
فن الخطابة يعتبر من أقدم الفنون النثرية اللسانية التي عرفها الإنسان. يقوم على تقديم فكرة أو عرض قضية أمام جمع من الناس بهدف إقناعهم والتأثير فيهم. يعتمد الخطيب في ذلك على مجموعة من المهارات والصفات، مثل الصوت الجهوري الواضح، والقدرة على انتقاء الألفاظ المناسبة، وحسن استخدام طبقات الصوت للتعبير عن المعاني المختلفة. فالخطابة ليست مجرد كلام، بل هي فن يجمع بين اللغة والبلاغة والإقناع.
أوجه الاختلاف بين الخطابة الجاهلية والإسلامية
تميزت الخطابة في كل من العصر الجاهلي والعصر الإسلامي بخصائص مميزة تعكس طبيعة المجتمع وثقافته في كل فترة. يمكن تلخيص أبرز الفروقات بينهما في النقاط التالية:
- البداية والنهاية: كانت الخطابة في العصر الجاهلي تبدأ بذكر أسماء الأصنام مثل اللات والعزى، أو بعبارات مثل “باسمك اللهم” بصورة بدائية. أما في العصر الإسلامي، فكانت الخطبة تبدأ بالحمد لله والصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتختتم بالدعاء والاستغفار.
- الإيجاز والإطناب: اتسمت الخطابة الجاهلية بالإيجاز الشديد وقلة استخدام المترادفات، بينما كانت الخطابة الإسلامية تتنوع بين الإيجاز والإطناب حسب مقتضى الحال والموضوع.
- تركيب الجمل: تميزت الجمل في الخطابة الجاهلية بالقصر وعدم الترابط القوي، مع الحرص على استخدام السجع. في المقابل، كانت الجمل في الخطابة الإسلامية أطول وأكثر ترابطًا، مع الابتعاد عن السجع المتكلف.
- المعاني والمضامين: استمدت الخطابة الجاهلية معانيها من البيئة المحيطة ومن الواقع المعيش، بينما اتسعت معاني الخطابة الإسلامية وتعمقت، مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
- الأهداف والغايات: كان الهدف الرئيسي للخطابة الجاهلية هو إثارة النعرات القبلية والتحريض على القتال والأخذ بالثأر. أما الخطابة الإسلامية، فكانت تهدف إلى تحقيق أهداف نبيلة، مثل الدعوة إلى التوحيد والحث على الجهاد في سبيل الله وتعزيز مكارم الأخلاق.
- العوامل المؤثرة: تأثرت الخطابة الجاهلية بالوثنية والعصبيات القبلية والأهواء الشخصية. بينما تأثرت الخطابة الإسلامية بالدين الإسلامي الحنيف وقيم العقلانية والتسامح.
- الشواهد والأدلة: اعتمد الخطباء في العصر الجاهلي على الحكم والأمثال لدعم أقوالهم. بينما استند الخطباء المسلمون إلى القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كمرجعيات أساسية. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
- أنواع الخطب: شملت الخطابة الجاهلية خطب الوفود والاستخلاف والولاية والحرب والزواج والمناظرة والخطب الاجتماعية. بينما اهتمت الخطابة الإسلامية بخطب الفتوح والزواج والوعظ والإرشاد والخطب السياسية والعلمية.
- العاطفة المحركة: كانت العاطفة القبلية هي المحرك الأكبر للخطباء في العصر الجاهلي، بينما كانت العاطفة الدينية هي القوة الدافعة للخطباء المسلمين.
العوامل المشتركة في الخطابة بين العصرين
على الرغم من الاختلافات الجوهرية بين الخطابة الجاهلية والإسلامية، إلا أنهما تشتركان في بعض العناصر والأسس التي تعتبر جوهر فن الخطابة بشكل عام، ومن هذه العوامل المشتركة:
- الإقناع بالدليل والحجة: تسعى كلتاهما إلى إقناع المستمعين بصحة الفكرة أو القضية المطروحة من خلال تقديم الأدلة والبراهين المقنعة.
- الوضوح في الطرح: يعتمد كلتاهما على الوضوح في التعبير عن الأفكار والمقاصد، وتجنب الغموض والإبهام.
- التوسط في الأسلوب: تسعى كلتاهما إلى تحقيق التوازن بين الإيجاز المخل والإطناب الممل، واختيار الأسلوب الأمثل الذي يناسب المقام والمستمعين.
- استخدام القصص والأمثال: تلجأ كلتاهما إلى استخدام القصص التراثية والتاريخية والأمثال الشعبية لتعزيز الفكرة وتوضيح المعنى.
- التأثير في المستمعين: تهدف كلتاهما إلى التأثير في قلوب المستمعين وعقولهم، وإحداث تغيير إيجابي في سلوكهم ومعتقداتهم.
خلاصة
في الختام، يمكن القول أن الخطابة في العصر الجاهلي والإسلامي تمثلان مرحلتين متميزتين في تاريخ الأدب العربي، حيث تعكس كل مرحلة طبيعة المجتمع وثقافته وقيمه. وبينما تميزت الخطابة الجاهلية بالتركيز على العصبية القبلية والأهداف الدنيوية، اتسمت الخطابة الإسلامية بالدعوة إلى التوحيد والأخلاق الفاضلة والأهداف السامية. ومع ذلك، تشترك الخطابتان في بعض الأسس والمهارات التي تعتبر جوهر فن الخطابة، مثل الإقناع والوضوح والتأثير.