جدول المحتويات
تأملات في القسم الرباني
ابتدأت سورة الفجر بالقسم، وهو أسلوب بلاغي عظيم يدل على أهمية ما سيأتي بعده. والله -عز وجل- له الحق أن يقسم بما شاء من خلقه، وهذا من عظمته وجلاله. يقول تعالى:
(وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر* هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ).
أقسم الله -جل جلاله- بخمسة أمور: الفجر، والليالي العشر، والشفع والوتر، والليل إذا يسر. الفجر والليالي العشر مرتبطان بالزمان، والفجر هو وقت الصلاة العظيم، والليالي العشر هي العشر الأوائل من شهر ذي الحجة، وهي أيام مباركة. أما الشفع والوتر فهما عبادتان، وهما صلاتان معروفتان. أما الليل إذا يسر، فهو الليل بشكل عام بعد تخصيص الليالي العشر.
كلمة “يسر” تعني سار ليلاً، كما في قوله تعالى: (سُبحانَ الَّذي أَسرى بِعَبدِهِ لَيلًا). وقوله تعالى: (هل في ذلك قسم لذي حجر) هو استفهام للتقرير، بمعنى أن هذا القسم مقنع لصاحب العقل السليم واللب الراجح.
دروس من الأمم الغابرة
يذكر الله -تعالى- أمثلة من الأمم السابقة التي طغت وتجبرت، وكيف كانت عاقبتها. يقول تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ).
قوم هود
يخاطب الله -عز وجل- النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-: ألم تر كيف فعل ربك بعاد؟ إرم هو اسم آخر لقبيلة عاد، وهي قبيلة لم يخلق مثلها في قوتها وبنيانها العجيب. قيل أنهم كانوا ينصبون الأعمدة العالية ويرفعون عليها القصور.
لقد تميزوا بقوة جسدية فائقة، لم يكن لهم مثيل، فاغتروا بقوتهم وتكبروا على دعوة هود -عليه السلام-، وأكثروا الفساد، فأخذهم الله بعذاب شديد.
وقد جاء في سورة فصلت ما يوضح هذا المعنى، قال -تعالى-: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّـهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ* فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ).
قوم صالح
أما ثمود، فهم الذين جابوا الصخر بالواد، أي نحتوا الصخر العظيم في الوادي، ويقال إنه في وادي القرى، وهو واد بين خيبر وتيماء. بلغوا من القوة أنهم نحتوا الجبال وأقاموا فيها القصور، ولكن هذه القوة لم تنفعهم عندما كذبوا نبيهم صالح -عليه السلام-، فأهلكهم الله تعالى بسبب ظلمهم.
قصة فرعون
وفرعون ذي الأوتاد، هو صاحب الأوتاد الذي عذب الناس بربطهم بالأوتاد. هؤلاء الذين طغوا في البلاد، أي اشتد عصيانهم وتجاوزوا الحدود. ضمير الجمع يعود على فرعون وقومه الذين اتبعوه في طغيانه، وكان كل منهم يطغى على من هو أضعف منه.
فأكثروا في الأرض الفساد، والفساد هو سوء حال الشيء ولحاق الضرر به. فساد القائد يؤدي إلى فساد الرعية، وينمي العداوات بين الناس، فيتغير أمن البلد واستقراره.
فصب عليهم ربك سوط عذاب، أي أنزل عليهم عذاباً سريعاً وشديداً. إن ربك لبالمرصاد، أي أنه يراقب كل من يخالف شرعه ويتكبر على الخضوع له.
نظرة في حال الإنسان عند الابتلاء
يقول الله تعالى: (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ). المقصود هنا هو الكافر الذي إذا اختُبر بالنعمة فرح بها وظن أنه يستحق الغنى لفضله ومكانته عند الله. أما إذا اختبره ربه بالفقر، فإنه يقول: ربي أهانن. فالكرامة والإهانة عنده مرتبطة بكثرة الرزق أو قلته. أما المؤمن، فالكرامة عنده هي توفيق الله له للطاعة، فيشكر نعمة الله ويصبر إذا ضاقت معيشته.
دحض ادعاءات المشركين
(كَلَّا) أي ليس الأمر كما يظن الكافر، بأن الغنى يصيب الإنسان لفضله عند الله، وأن الفقر يصيبه لإهانته. إنما الغنى والفقر هما من تقدير الله وقضائه لحكمة يريدها. (بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) هنا يبين الله حالهم في معاملتهم لليتيم، إذ يحرمونه من الميراث ويأكلون أمواله. (وَلَا تَحَاضُّونَ) أي لا يحض بعضكم بعضاً على إطعام المسكين.
(وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا) التراث هو ميراث اليتامى، يأكلونه أكلاً شديداً ويأخذون نصيبهم ونصيب غيرهم ظلماً وعدواناً. (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) أي تحبون المال حباً كثيراً وشديداً.
مشاهد من يوم القيامة
(كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) كلا ما هكذا ينبغي أن يكون حالكم، ما خُلقتم لتنشغلوا بالدنيا وتجمعوا المال بغير حق. هذا الفعل يستوجب الندم يوم تدك الأرض. الدك هو الكسر والدق. (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) أي ظهر أمر ربك وقضاؤه وقدرته، والملائكة مصفوفون، وجيء بجهنم يقودها سبعون ألف ملك.
عاقبة الكافر وثواب المؤمن
(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ) أي يتعظ الكافر، ولكن أنى له التوبة؟ فلن تنفعه الذكرى يوم الحساب، فيقول: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) ليتني عملت للحياة التي لا موت بعدها. (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) لا أحد يعذب كعذاب الله، ولا وثاق أشد على الكافر من وثاقه سبحانه.
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) ينتقل بنا الله -عز وجل- لجزاء المؤمنين، إذ يقبض أرواحهم المطمئنة بالإيمان. (ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) ارجعي إلى ربك عند قبض الروح، فادخلي في أجساد عبادي يوم القيامة، وادخلي الجنة دار النعيم والخلود.