مقدمة: رحلة في حياة الشاعر وإبداعه
يُعَدّ محمد بن عبد الملك بن زهر، المعروف بابن زهر، من أبرز شعراء الأندلس في القرن السادس الهجري. ولد في إشبيلية عام 507 هـ، وتوفي عام 595 هـ. لم يقتصر إبداع ابن زهر على الشعر فحسب، بل امتدّ إلى مجالاتٍ أخرى، فعُرف بإتقانه للطب، وذاك بفضل إرثه العلمي من والده، إضافة إلى حفظه للقرآن الكريم والسنة النبوية، وإتقانه للغة العربية وآدابها. كما ألّف العديد من الكتب في الطب والعلوم.
اشتهر ابن زهر ببراعته في الشعر، فجاءت قصائده منوّعة بين الغزل، والشوق، والعتاب، مع تميزها بالفصاحة والبلاغة. ولم يكتفِ بالشعر العمودي، بل برع أيضاً في فن الموشحات، مقدمًا لنا إرثًا شعريًا ثريًا ومتنوعًا.
البحور الشعرية في ديوانه
تنوعت البحور الشعرية التي نظم فيها ابن زهر أشعاره، ومن أبرزها: البحر الكامل، والبحر الطويل، والبحر الخفيف، والبحر البسيط، والبحر المتقارب. وتُظهر هذه التنوع إتقانه للبحر الشعري وقدرته على التعبير عن مختلف المشاعر والأفكار من خلال اختيار البحر المناسب.
بعض الأمثلة على ذلك:
- البحر الكامل: ملأَ الضلوعَ وفاضَ عن أحنائِها قلبٌ إذا ذُكرَ الحبيبُ يذوبُ
- البحر الطويل: رمت كبدي أخت السماك فأقصَدَتْ
- البحر الخفيف: فإذا جاءت المنية قالَ
- البحر البسيط: مغنىً خصيبٌ وبابٌ مرتجٌ أبدًا
- البحر المتقارب: نأت عنه داري فيا وحشة
قصائد مختارة من ديوانه
يحتوي ديوان ابن زهر على العديد من القصائد الجميلة التي تُظهر براعته الشعرية، وتتنوع مواضيعها بين الغزل، والمديح، والرثاء، والوصف.
تحليل لقصيدة “للهِ ما صنعَ الغرامُ بقلبهِ”
تُعدّ قصيدة “للهِ ما صنعَ الغرامُ بقلبهِ” من أجمل قصائد ابن زهر، حيث يُعبّر فيها عن شغفه بحبيبه، ويصف معاناته في الحب، بأسلوبٍ رقيقٍ وصورٍ بديعة. وتُظهر هذه القصيدة إتقانه للغة العربية، وقدرته على التعبير عن المشاعر بصورٍ فنيةٍ رائعة:
لِلَّهِ ما صَنَعَ الغَرامُ بِقَلبِهِ
أَودى بِهِ لمّا أَلبَّ بِلبِّهِ
لَبّاهُ لَمّا أَن دَعاهُ وَهكَذا
مَن يَدعهُ داعي الغَرامِ يُلَبِّهِ
بِأَبي الَّذي لا تَستَطيعُ لِعجبِهِ
رَدَّ السَلامِ وَإِن شَكَكتُ فَعج بِهِ
ظَبيٌ مِنَ الأَتراكِ ما تَرَك الضَنا
أَلحاظه مِن سَلوَةٍ لِمُحِبِّهِ
إِن كُنتَ تُنكِر ما جَنى بِلِحاظِهِ
في سَلبِهِ يَومَ الغويرِ فَسَل بِهِ
أَو شِئتَ أَن تَلقى غَزالاً أَغيَداً
في سِربِهِ أَسَدُ العَرينِ فَسِر بِهِ
يا ما أُمَيلحهُ وَأَعذَبَ ريقَهُ
وَأَعزَّهُ وَأَذَلَّني في حُبِّهِ
أَو ما أُلَيطف وَرده في خَدِّهِ
وَأَرَقّها وَأَشدَّ قَسوَة قَلبِهِ
كَم مِن خِمارٍ دونَ خَمرَةِ ريقِهِ
وَعَذابُ قَلبٍ دونَ رائِقِ عَذبِهِ
نادى بِنَفسِجِ عارِضَيهِ تَعَمُّداً
يا عاشِقينَ تَمَتَّعوا مِن قُربِهِ
موشحاته الساحرة
لم يقتصر إبداع ابن زهر على الشعر العمودي، بل أبدع أيضًا في فن الموشحات، وهو فنٌّ شعريٌّ موسيقيٌّ يتميّز بإيقاعاتهِ المميزةِ، وكلماتهِ الرقيقة. ومن أبرزِ موشّحاتِهِ “أيها الساقي إليك المشتكى” التي تُظهر إتقانه لهذا الفنّ، وعرفانهِ بأسراره:
أَيُّها الساقي إِلَيكَ المُشتَكى
قَد دَعَوناكَ وَإِن لَم تَسمَع
وَنَديمٌ هِمتُ في غُرّتِه
وَشَرِبت الراحَ مِن راحَتِه
كُلَّما اِستَيقَظَ مِن سَكرَتِه
جَذَبَ الزِقَّ إِلَيهِ وَاتَّكأ
وَسَقاني أَربَعاً في أَربَع
غُصنَ بانٍ مالَ مِن حَيثُ اِستَوى
باتَ مَن يَهواهُ مِن فَرطِ النَوى
خافِقُ الأَحشاءِ موهونُ القُوى
كُلَّما فَكَّرَ في البَينِ بَكى
ما لَهُ يَبكي لِما لَم يَقَع
ما لِعَيني عَشيت بِالنَظَرِ
أَنكَرَت بَعدَكَ ضوءَ القَمَرِ
عَشِيَت عَينايَ مِن طولِ البُكاء
وَبَكى بَعضي عَلى بَعضي مَعاً
لَيسَ لي صَبرٌ وَلا لي جَلَد
يا لَقَومي عَذَلوا وَاِجتَهَدوا
أَنكَروا شَكوايَ مِمّا أَجِد
مِثلُ حالي حَقُّها أَن تَشتَكي
كَمَد اليَأس وَذُلَّ الطَمَعِ
كَبدٌ حَرّى وَدَمعٌ يَكِفُ
يَعرِفُ الذَنبَ وَلا يَعتَرِفُ
أَيُّها المُعرِضُ عَمّا أَصِفُ
قَد نَما حُبُّكَ عِندي وَزَكَى
لا تَقُل إِنّي في حُبِّكَ مُدّعِ
خاتمة: خلاصة رحلتنا في عالم شعر ابن زهر
يُمثل ديوان ابن زهر إضافةً قيّمةً للوفرة الأدبية العربية، حيث يُبرز براعةً لافتةً في التعبير الشعريّ، واستخدام الصور البيانية والبلاغة اللغة العربية بطريقة فنية رائعة. يُعدّ إرثُه الشعريّ كنزًا يُستلهم منه، ويُدرس، ويُتذوّق من قِبل أجيالٍ متعاقبة.