مقدمة
أبو علي الحسن بن الحسن بن الهيثم، المعروف بـ “Alhazen” في المصادر الغربية، هو عالم موسوعي مسلم برع في مجالات متعددة. شملت اهتماماته الرياضيات، والطب، والفلك، والفلسفة، والفيزياء. كما ترك بصمته في المنطق، والأخلاق، والسياسة، والشعر، والموسيقى، وعلم الكلام. بالإضافة إلى ذلك، قام بتلخيص أعمال أرسطو وجالينوس. يعتبر ابن الهيثم شخصية بارزة في تاريخ العلوم، وله إسهامات كبيرة أثرت على التفكير العلمي لعدة قرون.
نشأة وحياة ابن الهيثم
ولد ابن الهيثم في مدينة البصرة في العراق عام 965 م، ولذلك نُسب إليها بـ “البصري”. حظي بتعليم متميز بفضل عمل والده في الحكومة. تلقى تعليمه الأولي في البصرة، ثم انتقل إلى بغداد لإكمال دراسته. في فترة من حياته، تولى منصب القضاء في البصرة، لكنه تركه ليتفرغ لدراسة العلوم المتنوعة، وذلك بسبب الاضطرابات التي أحدثتها الحركات الدينية المتناحرة في تلك الفترة.
سافر ابن الهيثم إلى عدة بلدان، منها إسبانيا، وعاش فترة طويلة في مصر. استُدعي إلى مصر من قبل الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، الذي طلب منه إيجاد حل لمشكلة فيضان النيل. اقترح ابن الهيثم بناء سد على النيل شمال أسوان، لكنه لم يتمكن من وضع تصميم عملي. خوفا على حياته، تظاهر بالجنون، فصودرت ممتلكاته وكتبه، وأُجبر على الإقامة الجبرية في منزله حتى اغتيال الخليفة الحاكم بأمر الله عام 1021م في ظروف غامضة. بعد ذلك، عاش ابن الهيثم بالقرب من الجامع الأزهر في القاهرة، حيث قام بتدريس الرياضيات والفيزياء، وكسب رزقه من نسخ النصوص. توفي ابن الهيثم في القاهرة عام 1040م عن عمر يناهز 74 عامًا.
إسهامات ابن الهيثم في علم الضوء والبصريات
تميز ابن الهيثم بنظريته الفريدة في الضوء والرؤية، التي لم تعتمد على أي نظرية سابقة في التاريخ القديم أو الإسلامي. يُعد أول من درس العدسات واكتشف قدرة العدسة المحدبة على تكبير الأجسام. استُفيد من هذا الاكتشاف في القرن الثالث عشر الميلادي في صناعة النظارات، أي بعد حوالي مئة عام من اكتشاف ابن الهيثم.
درس أيضًا طريقة مرور أشعة الضوء عبر مواد مختلفة، واكتشف قوانين انكسار الضوء. يعتبر أول من أجرى تجربة تشتت الضوء إلى ألوان الطيف الأساسية. خلال فترة إقامته الجبرية التي دامت عشر سنوات (1011م-1021م)، كتب أطروحته العلمية في سبعة أجزاء عن البصريات، وسماها “كتاب المناظر”، الذي يُعتبر من أكثر الكتب تأثيرًا في الفيزياء المعاصرة وفهم الرؤية والضوء، ويضاهي في أهميته كتاب “الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية” لإسحاق نيوتن.
تُرجم “كتاب المناظر” إلى اللاتينية ووصل إلى أوروبا عام 1200م، وكان له دور أساسي في التطور العلمي في أوروبا، وأثر على أعمال علماء أوروبيين مثل يوهانس كيبلر. ظل الكتاب الأهم في مجال البصريات حتى كتابة كيبلر لكتابه عن البصريات الفلكية عام 1604م. على الرغم من تأثير الكتاب الكبير في أوروبا، ظل مجهولاً في العالم الإسلامي حتى عشرينيات القرن الرابع عشر الميلادي. اهتم ابن الهيثم بدراسة العديد من الظواهر الفيزيائية، مثل الظل، والكسوف، وقوس قزح. درس أيضًا الطبيعة الفيزيائية للضوء، واستطاع تفسير ظاهرة تضخم حجم الشمس أو القمر عند اقترابهما من الأفق. اشتهر بأنه من أوائل من استخدم حجرة التصوير المظلمة والكاميرا ذات الثقب. اجتهد في تفسير آلية الرؤية في العيون، معارضًا نظريات بطليموس وإقليدس التي تفترض أن الأشعة الصادرة من العينين هي ما تمكنها من رؤية الأجسام. بفضل هذه البحوث والإسهامات في علم البصريات، يُعتبر ابن الهيثم أبو علوم البصريات الحديثة.
إسهامات ابن الهيثم في الرياضيات
تركزت دراسات ابن الهيثم في مجال الهندسة الرياضية وليس الجبر. نُسب إليه كتاب في الجبر، لكنه لم يصل إلينا. قبل ابن الهيثم، بدأ علماء الهندسة الرياضية في محاولة دمج نظريتين رياضياتين لأرخميدس وأبولونيوس، أي دمج نظرية مواضع الأجسام وعلاقتها بخصائصها المترية من طول وعرض وارتفاع. كان هذا الدمج مرشدًا علميًا للعلماء من بعدهم، مثل الحسن بن موسى وثابت. بعد ذلك، بدأ ابن الهيثم في التعمق في الهندسة الرياضية.
سجل ابن الهيثم العديد من الإنجازات في الهندسة الرياضية، منها اثنتا عشرة ورقة علمية في الرياضيات اللانهائية (بالإنجليزية: Infinitesimal Mathematics)، لم يصل إلينا سوى سبع منها. كما كتب عشر ورقات علمية في نظرية الأقسام المخروطية وتطبيقاتها. عالج مشاكل أساسية في الرياضيات في عدة ورقات علمية، مثل “مقالة في التحليل والتركيب”، و”كتاب في المعلومات”، وشرح “أصول إقليدس في الهندسة والأعداد والعناصر”، و”كتاب في حل شكوك كتاب إقليدس في الأصول وشرح معانيه”. درس وعالج مشاكل الفرضية الخامسة لإقليدس المُسلّم بها في نظرية البرهنة الرياضية، وعدّل على ورقة علمية عن نظرية الأعداد، وكتب أربع ورقات عن علم الحساب ومثلها عن علم الهندسة التطبيقية.
إسهامات ابن الهيثم في علم الفلك
أفاد ابن الهيثم علماء الفلك المسلمين والأوروبيين على حد سواء بدراساته الفلكية. حل بعض المشاكل التي واجهت العلماء المسلمين في تحديد القبلة، وانتقد نموذج حركة الكواكب الخاص ببطليموس، مما أدى إلى ظهور دراسات في العالم الإسلامي تفسر حركة الكواكب بشكل مختلف في القرن الثالث عشر في مدينة مراغة الإيرانية، وفي القرن الرابع عشر في مدينة دمشق. أثر ابن الهيثم على علماء الفلك الأوروبيين في عصر النهضة من خلال تفسيراته لبنية الكون وحركة الكواكب.
إسهامات ابن الهيثم في مجالات متنوعة
برع ابن الهيثم في العديد من المجالات الأخرى، ومن أهمها:
- الطب: كانت أهم إسهامات ابن الهيثم في مجال الطب وطب العيون جراحة العين وتفسير آلية الرؤية والإدراك البصري.
- علم النفس: أصبح ابن الهيثم من رواد علم النفس التجريبي عن طريق تفسيره لعلم النفس المرتبط بالإدراك البصري.
- الفلسفة: اهتم ابن الهيثم بالفلسفة من جانبين:
- فلسفة الظواهر (بالإنجليزية: Phenomenology): تعنى هذه الفلسفة بتفسير الوجود والظواهر الكونية. كان ابن الهيثم من روادها، ووضح العلاقة بين الظواهر المشهودة، وعلم النفس، والحدس، والوظائف العقلية. أدت نظرياته عن المعرفة والإدراك وربط العلم بالدين إلى فلسفة وجودية تفسر الكون بناءً على تأمل الإنسان ومراقبته للظواهر التي حوله، ولم يتم تحديث نظرياته في هذا المجال حتى القرن العشرين.
- فلسفة المكان (بالإنجليزية: Place Philosophy): كان تعريف المكان حسب فلسفة أرسطو إطارًا ثنائي الأبعاد يتصل بالأجسام في حالة السكون ويحتويها. لكن ابن الهيثم اتجه في تفسيره إلى ناحية أخرى تمامًا في ورقته العلمية “رسالة في المكان”، حيث أوضح أن المكان هو فراغ ثلاثي الأبعاد بين عدة أسطح داخلية يحتوي أجسامًا داخله. كانت هذه الفلسفة مقدمة لرؤية الفيلسوف الفرنسي ديكارت عن المكان في كتابه “Extensio” الذي صدر في القرن السابع عشر.
المنهج العلمي الذي اتبعه ابن الهيثم
تطورت الفلسفة الإسلامية في العصور الوسطى، وبالتحديد طريقة التجربة والخطأ للتفريق بين النظريات والاعتقادات حول طبيعة الكون. أثرت هذه الفلسفة على المناقشات بين العلماء والفلاسفة في ذلك الوقت. كان ابن الهيثم من أهم المؤثرين في هذا المجال، حيث طور طرقًا دقيقة للتجارب العلمية المتحكم بشروطها ليتمكن من التأكد من صحة الفرضيات والتخمينات الاستقرائية التي تقوم على الدليل. هذه الطريقة مشابهة لعلماء العصر الحديث في البحث العلمي، والتي تتضمن مراقبة نتائج التجربة عن طريق تكرارها، واختبار الفرضيات، والحاجة إلى دليل مستقل لتأكيد صحتها.
أبرز مؤلفات ابن الهيثم
كتب ابن الهيثم أكثر من مئتي عمل في مجالات العلوم المختلفة، ستة وتسعون منها معروفة، ولكن لم يصل سوى 50 عملاً إلى عصرنا هذا، أكثر من نصفهم عن الرياضيات، وثلاثة وعشرين منهم عن علم الفلك، وأربعة عشر عن البصريات، والباقي توزّع بين المجالات العلمية التي تخصّص بها. عاش ابن الهيثم بالقرب من الجامع الأزهر في القاهرة، وعلّم الرياضيات والفيزياء، وكسب رزقه عن طريق نسخ النصوص. من أهم أعماله في البصريات “كتاب المناظر”. كتب أيضًا في الفيزياء وتحديدًا في الجاذبية والعلاقة بين حركة الأجسام الساقطة والوقت والفضاء، بالإضافة إلى مؤلفات عديدة في الرياضيات، والهندسة، وعلم الفلك، والطب، وعلم النفس، وعلم التشريح، وآلية الرؤية، وطب العيون. شرح أجزاء العين ووظائفها بالتفصيل، وكتب مقدمة عن طرق بحثه العلمي المعتمدة على التجربة والأرقام. من أهم أعماله التي تمت دراستها:
- كتاب المناظر.
- رسالة في الضوء.
- ميزان الحكمة.
- مقالة في القرسطون عن مراكز الجاذبية.
- رسالة في المكان.
- شكوك بخصوص بطليموس.
- تكوين العالم.
- نماذج حركات الكواكب السبع.
وفاة ابن الهيثم
توفي ابن الهيثم عام 1040م في القاهرة عن عمر يناهز 74 عامًا.