نظرة عامة على ثقافة العفو في الجاهلية
على الرغم من الصورة السائدة عن العصر الجاهلي كفترة اتسمت بالحروب والانتقام، إلا أن قيم العفو والتسامح لعبت دورًا هامًا في تنظيم العلاقات الاجتماعية بين القبائل. كانت الحياة القبلية تعتمد بشكل كبير على التوازن والاستقرار، وكانت المصالحة والتسامح أدوات ضرورية للحفاظ على هذا التوازن.
كان شيخ القبيلة يلعب دورًا محوريًا في تعزيز هذه القيم، حيث كان يسعى جاهدًا لحل النزاعات والخلافات بين أفراد القبيلة، وغرس روح التعاون والتآخي بينهم. وفي حالة نشوب حرب بين قبيلتين، كان يتم اللجوء إلى قاضٍ يتمتع بالثقة والاحترام من كلا الطرفين للفصل في النزاع وتحقيق الصلح.
حكايات تجسد العفو في الجاهلية
تزخر كتب التاريخ والأدب بقصص وحكايات تبرز قيم العفو والتسامح في العصر الجاهلي، وتعكس حرص العرب على حل النزاعات بطرق سلمية وعادلة. من أبرز هذه القصص:
حكاية قيس بن عاصم المنقري
تعتبر قصة قيس بن عاصم المنقري مثالًا رائعًا على الحلم والعفو عند المقدرة. روي أن الأحنف بن قيس سئل: “ممن تعلمت الحلم؟” فأجاب: “من قيس بن عاصم المنقري، رأيته يومًا قاعدًا بفناء داره محتبيًا بحمائل سيفه يحدث قومه إذ أتي برجل مكتوف، وآخر مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قتل ابنك.”
يتابع الأحنف واصفًا ردة فعل قيس: “فو الله ما حل حبوته، ولا قطع كلامه، فلما أتمه التفت إلى ابن أخيه فقال: يا بن أخي، بئس ما فعلت! أثمت بربك، وقطعت رحمك، وقتلت ابن عمك، ورميت نفسك بسهمك، ثم قال لابن له آخر: قم يا بني فوار أخاك، وحل كتاف ابن عمك، وسق إلى أمك مائة ناقة دية ابنها، فإنها غريبة.”
ملحمة داحس والغبراء
تعتبر حرب داحس والغبراء من أشهر الحروب التي شهدها العصر الجاهلي، والتي اندلعت بسبب سباق بين فرسين يحملان نفس الاسمين. استمرت هذه الحرب لسنوات طويلة وأدت إلى خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات.
لكن بفضل جهود الحكماء والعقلاء، وعلى رأسهم هرم بن سنان والحارث بن عوف المري، تم التوصل إلى صلح بين القبائل المتنازعة، وتحمل هذان الرجلان ديات القتلى من أموالهما الخاصة، مما ساهم في إنهاء هذه الحرب الطويلة وإحلال السلام والاستقرار.
أشعار في فضل الصفح
عبر شعراء العصر الجاهلي عن قيم العفو والتسامح في أشعارهم، وحثوا على الصفح والترفع عن الصغائر، ونبذ العنف والانتقام. من أبرز هذه الأشعار:
قصيدة وذي رحم
يقول الشاعر معن بن أوس المزني في قصيدته:
وذي رَحِمٍ قَـــلَّـــمتُ أظــــفـــارَ ضِــــــغْنِه
بحـــلـــمــي عـــنه وهـــو لـــيس له حِــــلم
يُحـــاولُ رَغــمـــي لا يحـــاولُ غــــــيـــره
وكـــالمـــوت عـــندي أن يَحُلَّ به الرَّغْم
فإن أعْـــفُ عـنه أُغــــضِ عَيْناً على قَذى
وليس له بالصــفـــح عــن ذنــبـــــه عِلم
وإن أنـــتـــصـــر مـــنه أكُنْ مثل رائشٍ
ســهـــامَ عَــــدُوٍ يُــستهاض بها العَضم
صـــبرتُ عــــلى مــــاكان بــينى وبينه
وما تــســـتــوي حــــربُ الأقارب والسلمُ
وبادرتُ مـــنه النـــأيَ والمــــرءُ قـــادر
عـــــلى ســـهـمه مادام في كفهِ السهمُ
ويَشْتمُ عـــرضِي فـي المُــغَــــيَّب جاهدا
وليـــس له عـــنــدي هــــوانٌ ولا شَـــــتْمُ
إذا ســــمــــتُه وَصْـــلَ القــرابة سامني
قـــطـــيعــتها تلك الســفـــاهـةُ والإثم
وإن أدَعُــهُ للنِّــصـــف يــــأبَ ويَعــصني
ويـــدعُو لحُــــكْم جـــائــــر غَيْرهُ الحكم
فلولا اتــــقــــاءُ الله الـــــرحـــــــمِ التي
رِعــــايـــتُــها حـــقٌ وتَعـــطـــيلُـها ظُلمُ
إذاً لعـــلاهُ بـــــارقــي وخَــطَـــمْـــتُــــــــهُ
بـــوســـم شَــــــنَــــارٍ لا يشاكهُه وَسمُ
ويــســـعــى إذا أبــنــي ليـهدم صالحي
وليس الذي يبني كمـــن شأنه الهدمُ
يـــودُ لو أنــي مُـــعْـــدِمٌ ذو خَـــصَـــــاصةٍ
وأكــــــره جُـــــهــدي أن يُخالطه العُدْمُ
ويَعـــتَدُّ غُـــنْــماً في الحوادث نَكبتي
وما إن له فـــــيـــهــــا سَــــنَاءٌ ولا غُــنْمُ
فــمــــا زلــــت فـــي لـــيني له وتعطفي
عــــلــيه كــــما تـــحــــنو على الولد الأمُ
وخـــفـــضٍ له مـــنـــي الجــــناح تــــــألفاً
لتـــــدنــــيـــــه مني القـــــرابةُ والرِّحْمُ.
وقــــولي إذا أخــــشى عـــلــيه مـــصيبة
ألا اســلم فـداك الخالُ ذو العَقْد والعَمُّ
وصــبري على أشــــياءَ مــــنه تُـرِيبُني
وكظمي على غيظي وقد ينفع الكَظمُ.
قصيدة رأيت بني آل امرئ القيس أصفقوا
ويقول زهير بن أبي سلمى:
رَأَيتُ بَني آلِ اِمرِئِ القَيسِ أَصفَقوا
عَلَينا وَقالوا إِنَّنا نَحنُ أَكثَرُ
سُليمُ بنُ مَنصورٍ وَأَفناءُ عامِرٍ
وَسَعدُ بنُ بَكرٍ وَالنُصورُ وَأَعصُرُ
خُذوا حَظَّكُم يا آلَ عِكرِمَ وَاِذكُروا
أَواصِرَنا وَالرِحمُ بِالغَيبِ تُذكَرُ
خُذوا حَظَّكُم مِن وُدِّنا إِنَّ قُربَنا
إِذا ضَرَّسَتنا الحَربُ نارٌ تَسَعَّرُ
وَإِنّا وَإِيّاكُم إِلى ما نَسومُكُم
لَمِثلانِ أَو أَنتُم إِلى الصُلحِ أَفقَرُ.
المصادر
- أبأحلام بالولي، النزعة القبلية في الشعر الجاهلي، صفحة 1-2. بتصرّف.
- أبابن عبد ربه الأندلسي، كتاب العقد الفريد، صفحة 136.
- أبشوقي ضيف، العصر الجاهلي، صفحة 66. بتصرّف.
- “رأيت بني آل امرئ القيس أصفقوا”، ديوان.