مقدمة
تُعد قصيدة “أغالب فيك الشوق” لأبي الطيب المتنبي من عيون الشعر العربي، نظمها في مدح كافور الإخشيدي. تحمل القصيدة بين طياتها مزيجًا من العواطف المتضاربة، من الشوق والحنين إلى العتاب والتساؤل. سنقوم في هذا المقال بتحليل هذه القصيدة، واستكشاف معانيها وأبعادها المختلفة.
نظرة على بداية القصيدة
يستهل المتنبي قصيدته بالبيت الشهير:
أُغالِبُ فيكَ الشَوقَ وَالشَوقُ أَغلَبُ
وَأَعجَبُ مِن ذا الهَجر والوصلُ أعجبُ
هنا، يعبر الشاعر عن صراعه الدائم مع الشوق الذي يغلبه رغمًا عنه. ثم ينتقل إلى التعبير عن استغرابه من تناقضات الحياة، حيث الهجر يأتي بعد الوصل، والبعد بعد القرب.
ويتابع قائلاً:
أَما تَغلط الأَيام في بِأَن أَرى
بَغيضاً تُنائي أَو حَبيبا تُقَربُ
يتساءل المتنبي عن سبب عدم مجيء الأيام بما يشتهي، حيث تقرب البغيض وتبعد الحبيب. ثم يصف رحلته السريعة إلى مصر وشوقه لكافور:
وَلِلَّهِ سَيري ما أَقل تَإِية
عشية شَرقي الحدالي وغُربُ
عشية أَحفى الناسِ بي مَن جَفَوتُهُ
وَأَهدى الطريقين التي أَتجنبوَكَم لظَلام الليل عندك مِن يَد
تُخبر أَنَّ المانوية تكذبُ
ويشير إلى كرم كافور في الليل، نافيًا بذلك ادعاءات المانوية بأن الظلام لا يحمل خيرًا.
وقاك ردى الأعداء تسري إِليهم
وزارك فيه ذو الدلال المحجب
ويوم كليل العاشقين كَمنته
أراقب فيه الشمس أيان تغرب
يختتم المقطع بالدعاء لكافور وحمايته من الأعداء.
باختصار، يقدم هذا المقطع تصويرًا حيًا لشوق المتنبي لكافور، وتأملاته في الحياة وتقلباتها، وإشادته بكرم الممدوح.
استكشاف المقطع الثاني
ينتقل المتنبي في هذا الجزء من القصيدة إلى وصف فرسه، مبرزًا صفاته ومميزاته:
وعيني إلى أذني أغر كأنه
من الليل باقٍ بين عينيه كوكب
له فضلة عن جسمه في إهابه
تجيء على صدر رحيب وتذهب
يركز الشاعر على لون الفرس الأسود الداكن، ويشبه عينيه بالكواكب المتلألئة في الليل. كما يصف صدره الواسع وقوته.
شققت به الظلماء أدني عنانه
فيطغى وأرخيه مرارًا فيلعب
وأصرع أيّ الوحش قفّيته به
وأنزل عنه مثله حين أركب
يؤكد على قدرة الفرس على اختراق الظلام وهزيمة الوحوش.
ما الخيل إلّا كالصديق قليلة
وإن كثرت في عين من لا يجرّب
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها
وأعضائها فالحسن عنك مغيّب
ينهي المقطع بتشبيه الخيل بالصديق، مؤكدًا على أن الجمال الحقيقي للخيل لا يكمن في مظهرها الخارجي، بل في أصالتها وقدرتها.
المقطع الثاني يمثل استعراضًا لقوة الفرس وولاءه، ويقدم نظرة عميقة إلى العلاقة بين الفارس وفرسه.
تأملات في المقطع الثالث
في هذا المقطع، يعبر المتنبي عن ضيقه بالدنيا وهمومها:
لحا الله ذي الدنيا مناخاً لراكب
فكلّ بعيد الهمّ فيها معذّب
ألا ليت شعري هل أقول قصيدةً
فلا أشتكي فيها ولا أتعتّب
يتمنى الشاعر أن يتمكن من كتابة قصيدة لا يشكو فيها ولا يعاتب، مما يعكس شعوره بالإحباط واليأس.
بي ما يذود الشعر عنّي أقلّه
ولكنّ قلبي يا ابنة القوم قلّب
يشير إلى أن الهموم تثقل كاهله وتمنعه من كتابة الشعر، لكن قلبه لا يزال ينبض بالشعر والإبداع.
هذا المقطع يعبر عن معاناة الشاعر في مواجهة صعوبات الحياة، ورغبته في التغلب على هذه الصعوبات من خلال الشعر.
المقطع الرابع: نظرة فاحصة
يمتدح المتنبي كافورًا في هذا المقطع، مبرزًا أخلاقه الحميدة وكرمه:
وأخلاق كافور إذا شئت مدحه
وإن لم أشأ تملي عليّ وأكتب
إذا ترك الإنسان أهلاً وراءه
ويمّم كافوراً فما يتغرّب
يؤكد على سهولة مدح كافور لما يتمتع به من صفات حميدة، وأن كافور يعوض الغريب عن أهله ووطنه.
فتىً يملأ الأفعال رأياً وحكمةً
ونادرةً أحيان يرضى ويغضب
إذا ضربت في الحرب بالسيف كفّه
تبيّنت أنّ السيف بالكفّ يضرب
يشير إلى حكمة كافور وشجاعته في الحرب.
تزيد عطاياه على اللبث كثرةً
وتلبث أمواه السحاب فتنضب
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله
فإنّي أغنّي منذ حين وتشرب
يثني على كرم كافور وعطائه الذي لا ينضب.
وهبت على مقدار كفي زماننا
ونفسي على مقدار كفّيك تطلب
إذا لم تنط بي ضيعةً أو ولايةً
فجودك يكسوني وشغلك يسلب
يعبر عن طموحاته ورغبته في نيل المزيد من كرم كافور.
هذا المقطع يمثل إطراءً لكافور، وإبرازًا لصفاته النبيلة وأخلاقه الرفيعة.
تحليل المقطع الخامس
يواصل المتنبي وصف حاله في العيد، معبرًا عن وحدته وشوقه إلى أهله:
يضاحك في ذا العيد كلّ حبيبه
حذائي وأبكي من أحبّ وأندب
أحنّ إلى أهلي وأهوى لقاءهم
وأين من المشتاق عنقاء مغرب
يشير إلى أنه الوحيد الذي يبكي في العيد، ويتوق إلى لقاء أهله.
فإن لم يكن إلّا أبو المسك أو هم
فإنّك أحلى في فؤادي وأعذب
وكلّ امرئ يولي الجميل محبّب
وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب
يؤكد على أن كافور هو الأقرب إلى قلبه، وأن كل من يقدم الخير يكون محبوبًا.
يريد بك الحسّاد ما الله دافع
وسمر العوالي والحديد المذرّب
ودون الّذي يبغون ما لو تخلّصوا
إلى الموت منه عشت والطفل أشيب
يحذر كافور من الحساد والأعداء، ويؤكد على أن الله سيحميه منهم.
إذا طلبوا جدواك أعطوا وحكّموا
وإن طلبوا الفضل الّذي فيك خيّبوا
ولو جاز أن يحووا علاك وهبتها
ولكن من الأشياء ما ليس يوهبو
يشير إلى أن الحساد قد يحصلون على عطايا كافور، لكنهم لن يتمكنوا من نيل فضله ومكانته.
وأظلم أهل الظلم من بات حاسداً
لمن بات في نعمائه يتقلّب
ينهي المقطع بالتأكيد على أن الحسد هو أسوأ أنواع الظلم.
هذا المقطع يجمع بين الشوق والحنين، والتحذير من الأعداء، والإشادة بكرم كافور وفضله.
المقطع السادس: استنتاجات
يختتم المتنبي قصيدته بالثناء على كافور ودوره في بناء الملك:
وأنت الّذي ربّيت ذا الملك مرضعاً
وليس له أمّ سواك ولا أبو
كنت له ليث العرين لشبله
وما لك إلّا الهندوانيّ مخلب
يؤكد على أن كافور هو الذي بنى الملك ورعاه.
لقيت القنا عنه بنفس كريمة
إلى الموت في الهيجا من العار تهرب
وقد يترك النفس الّتي لا تهابه
ويخترم النفس الّتي تتهيّب
يشير إلى شجاعة كافور في الدفاع عن الملك.
ما عدم اللاقوك بأساً وشدّةً
ولكنّ من لاقوا أشدّ وأنجب
ثناهم وبرق البيض في البيض صادقعليهم وبرق البيض في البيض خلّب
يؤكد على قوة كافور وانتصاره على الأعداء.
سللت سيوفاً علّمت كلّ خاطب
على كلّ عود كيف يدعو ويخطب
يشير إلى أن السيوف تعلم الخطباء كيف يخطبون باسم كافور.
ويغنيك عمّا ينسب الناس أنّه
إليك تناهى المكرمات وتنسب
وأيّ قبيل يستحفّك قدرهمعدّ بن عدنان فداك ويعرب
يؤكد على أن كافور هو أصل المكرمات، وأنه أسمى من أي نسب.
ما طربي لمّا رأيتك بدعةًلقد كنت أرجو أن أراك فأطرب
وتعذلني فيك القوافي وهمّتيكأنّي بمدح قبل مدحك مذنب
يعبر عن سعادته بلقاء كافور.
ولكنّه طال الطريق ولم أزلأفتّش عن هذا الكلام وينهبفشرّق حتّى ليس للشرق مشرقوغرّب حتّى ليس للغرب مغرب
يشير إلى أن شعره وصل إلى كل مكان.
إذا قلته لم يمتنع من وصولهجدار معلّى أو خباء مطنّب
يؤكد على أن شعره قادر على الوصول إلى أي مكان.
في الختام، يمكن القول أن هذه القصيدة تعبر عن مزيج من المشاعر والأفكار، وتجسد العلاقة القوية بين الشاعر والممدوح.