جدول المحتويات:
طلب المشركين وأهل الكتاب للبرهان
دأب الكافرون والمشركون على تكذيب النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وإظهار عدم استعدادهم للإيمان برسالته، مصرين على أنهم لن يصدقوه إلا بعد ظهور دليل قاطع وعلامة واضحة على صدقه، تلك العلامة التي بُشِّروا بها في الكتب السماوية السابقة. هذه العلامة تتمثل في تلاوة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- لآيات القرآن الكريم الموجودة في صحف مطهرة ومنزهة عن أي باطل أو تحريف. تحمل هذه الصحف آيات وأحكاماً تشريعية مستقيمة وهادية إلى طريق الصلاح والرشاد.
يقول الله تعالى في هذا الشأن:
(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ* رَسُولٌ مِّنَ اللَّـهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً* فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ). [٢]
في هذه الآيات، بيان واضح لما كان ينتظره الكفار من أهل الكتاب والمشركين، وهو البينة التي تأتيهم من عند الله.
إعراض أهل الكتاب والمشركين بعد ظهور الدليل
لم يختلف أهل الكتاب من اليهود والنصارى في حقيقة نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا بعد أن تأكدوا بأنه النبي الموعود به في التوراة والإنجيل. كانوا متفقين على صحة نبوته قبل بعثته، ولكنهم جحدوها وتفرقوا بعد ذلك. والأصل أنهم لم يؤمروا في جميع الشرائع إلا بعبادة الله وحده، وتوجيه العبادة إليه وحده، والابتعاد عن الشرك والإقبال على الإيمان، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهذا هو دين الاستقامة، وهو الإسلام الحق.
وقد قال تعالى:
(وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ). [٤]
هذه الآية الكريمة توضح أن الاختلاف والتفرق لم يقع بين أهل الكتاب إلا بعد أن جاءتهم البينة الواضحة، مما يدل على عنادهم وإصرارهم على الباطل.
تفصيل آيات الجزاء والثواب
تطرقت السورة المباركة إلى جزاء المؤمنين وثوابهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة، وكذلك إلى عقاب الكافرين وجزائهم على كفرهم وعصيانهم، وذلك على النحو التالي:
عقاب الكافرين: الكافرون من اليهود والنصارى والمشركين مصيرهم نار جهنم، سيبقون فيها خالدين مخلدين، وهم بذلك شر الخليقة وأسوأهم حالاً.
يقول تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَـئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ). [٦]
ثواب المؤمنين: وعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين الذين صدقوا نبيه والتزموا بأوامره بجنات الخلد، تجري من تحتها الأنهار، وسيبقون فيها إلى الأبد. رضي الله عنهم وتقبل أعمالهم الصالحة، وهم راضون بما أعده الله لهم من الكرامات. هذا الجزاء العظيم هو لمن خاف الله واجتنب معاصيه.
قال تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ* جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ). [٨]
هذه الآيات الكريمة تبين الفرق الشاسع بين مصير المؤمنين ومصير الكافرين، وتحث على الإيمان والعمل الصالح.
نبذة عن سورة البينة
سورة البينة سورة مدنية، وهي من السور القصيرة في القرآن الكريم. ترتيبها في المصحف العثماني هو السورة الثامنة والتسعون. تتكون من ثماني آيات، وتقع في الربع السابع من الحزب الستين في الجزء الثلاثين من القرآن الكريم. نزلت بعد سورة الطلاق.
بدأت السورة بأسلوب النفي، حيث قال تعالى:
(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا).
تعددت أسماء هذه السورة، ومن بينها: سورة لم يكن، المنفكين، القيامة، البرية، والبينة. وسبب تسميتها بسورة البينة يعود إلى ورود كلمة “البينة” في الآية الأولى منها، وهي قول الله تعالى:
(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ).
يذكر أن هذه السورة نزلت في شأن أبيّ بن كعب رضي الله عنه، وذلك عندما سمع الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقرأ القرآن بطريقة مختلفة عما سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنكر عليه. وبعد خلاف بينهما حول صحة القراءة، ذهبا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليحكم بينهما. بعد أن استمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى قراءتيهما، أقر القراءتين وأخبرهما أن كليهما على صواب، مما أثار الشك في قلب أبيّ.
ولم يشأ الله تعالى أن يترك أبيّ بن كعب -رضي الله عنه- في شكوكه، لأنه كان رجلاً عابداً متقياً، فأزال الله الشك من قلبه وزاده إيماناً. روى أنس بن مالك -رضي الله عنه-:
(قالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- لِأُبَيٍّ: إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ القُرْآنَ قالَ أُبَيٌّ: آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟ قالَ: اللَّهُ سَمَّاكَ لي فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكِي، قالَ قَتَادَةُ: فَأُنْبِئْتُ أنَّهُ قَرَأَ عليه:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}) [١٥][١٤].
هذا الحديث يظهر فضل هذه السورة ومنزلتها.
تضمنت السورة ثلاثة أمور رئيسية:
- بيان علاقة أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمشركين برسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- وموقفهم منها.
- تحديد الهدف الأساسي من الدين والإيمان، وهو إخلاص العبادة لله -عز وجل-.
- توضيح مصير كل من الكفار المجرمين (شر البرية) والمؤمنين الأتقياء (خير البرية).
بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانت ضرورية لتحويل الكافرين عن ضلالهم واختلافهم. فمنهم من آمن بها ومنهم من أنكرها استكباراً. الذين كفروا بعد العلم كانوا شر البرية، والذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية، وجزاء كل منهم يختلف بحسب عمله واستجابته لدعوة الحق.