مقدمة عن شعر الهجاء عند المتنبي
تميز أبو الطيب المتنبي بقدرته الفائقة على التعبير عن مختلف الأغراض الشعرية، وبرز بشكل خاص في فن الهجاء. لقد كان الهجاء في شعره سلاحًا قويًا، يعبر به عن استيائه ونقده اللاذع تجاه خصومه. تميزت قصائده في هذا المجال بالحدة والقوة، واستخدم فيها ألفاظًا قوية وصورًا شعرية معبرة لإبراز عيوب من يهاجمهم. لم يكن الهجاء عند المتنبي مجرد سباب أو شتم، بل كان يعتمد على الفصاحة والبلاغة، ويستخدم الأدلة والحجج لإقناع القارئ بوجهة نظره.
يعتبر الهجاء جزءًا لا يتجزأ من تجربة المتنبي الشعرية، ويعكس جوانب مختلفة من شخصيته وطموحاته. من خلال الهجاء، كان المتنبي يسعى إلى تحقيق أهدافه السياسية والاجتماعية، وإلى إثبات تفوقه الشعري على منافسيه.
تحليل قصيدة “كفى بك داء أن ترى الموت شافيا”
تعتبر هذه القصيدة من أشهر قصائد المتنبي في الهجاء، وقد وجهها إلى كافور الإخشيدي، حاكم مصر. يعبر المتنبي في هذه القصيدة عن احتقاره لكافور، ويتهمه بالجبن والضعف والخسة. يستخدم المتنبي في القصيدة ألفاظًا قوية وصورًا شعرية معبرة لإبراز هذه الصفات السلبية في كافور.
يبدأ المتنبي القصيدة بالبيت الشهير:
كفَى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا
وهو بيت يعكس شدة يأس كافور ورغبته في الموت بسبب الذل الذي يعيش فيه. ثم يستمر المتنبي في وصف عيوب كافور، ويؤكد على أن الحياة ذليلة لا تستحق أن تعاش. ومن الأبيات الأخرى في القصيدة:
تَمَنَّيتَها لَمّا تَمَنَّيتَ أَن تَرى صَديقاً فَأَعيا أَو عَدُوّاً مُداجِيا
إِذا كُنتَ تَرضى أَن تَعيشَ بِذِلَّةٍ فَلا تَستَعِدَّنَّ الحُسامَ اليَمانِيا
وَلا تَستَطيلَنَّ الرِماحَ لِغارَةٍ وَلا تَستَجيدَنَّ العِتاقَ المَذاكِيا
فَما يَنفَعُ الأُسدَ الحَياءُ مِنَ الطَوى وَلا تُتَّقى حَتّى تَكونَ ضَوارِيا
حَبَبتُكَ قَلبي قَبلَ حُبِّكَ مَن نَأى وَقَد كانَ غَدّاراً فَكُن أَنتَ وافِيا
وَأَعلَمُ أَنَّ البَينَ يُشكيكَ بَعدَهُ فَلَستَ فُؤادي إِن رَأَيتُكَ شاكِيا
فَإِنَّ دُموعَ العَينِ غُدرٌ بِرَبِّها إِذا كُنَّ إِثرَ الغادِرينَ جَوارِيا
إِذا الجودُ لَم يُرزَق خَلاصاً مِنَ الأَذى فَلا الحَمدُ مَكسوباً وَلا المالُ باقِيا
وَلِلنَفسِ أَخلاقٌ تَدُلُّ عَلى الفَتى أَكانَ سَخاءً ما أَتى أَم تَساخِيا
أَقِلَّ اِشتِياقاً أَيُّها القَلبُ رُبَّما رَأَيتُكَ تُصفي الوُدَّ مَن لَيسَ جازِيا
خُلِقتُ أَلوفاً لَو رَحَلتُ إِلى الصِبا لَفارَقتُ شَيبي موجَعَ القَلبِ باكِيا
وَلَكِنَّ بِالفُسطاطِ بَحراً أَزَرتُهُ حَياتي وَنُصحي وَالهَوى وَالقَوافِيا
وَجُرداً مَدَدنا بَينَ آذانِها القَنا فَبِتنَ خِفافاً يَتَّبِعنَ العَوالِيا
تَماشى بِأَيدٍ كُلَّما وافَتِ الصَفا نَقَشنَ بِهِ صَدرَ البُزاةِ حَوافِيا
وَتَنظُرُ مِن سودٍ صَوادِقَ في الدُجى يَرَينَ بَعيداتِ الشُخوصِ كَما هِيَ
وَتَنصِبُ لِلجَرسِ الخَفيِّ سَوامِعاً يَخَلنَ مُناجاةَ الضَميرِ تَنادِيا
تُجاذِبُ فُرسانَ الصَباحِ أَعِنَّةً كَأَنَّ عَلى الأَعناقِ مِنها أَفاعِيا
توضح هذه الأبيات ازدراء المتنبي لكافور وتفضيله للموت على الحياة في كنفه.
دراسة قصيدة “عذيري من عذارى من أمور”
في هذه القصيدة، يوجه المتنبي هجاءه إلى ابن كروس، الذي لم تذكر المصادر تفاصيل كثيرة عنه. يعبر المتنبي عن استيائه من تصرفات ابن كروس، ويتهمه بالخيانة والجبن. يستخدم المتنبي في القصيدة أسلوبًا ساخرًا ولاذعًا لإبراز هذه الصفات السلبية.
يقول المتنبي:
عَذيري مِن عَذارى مِن أُمورِ سَكَنَّ جَوانِحي بَدَلَ الخُدورِ
وَمُبتَسِماتِ هَيجاواتِ عَصرٍ عَنِ الأَسيافِ لَيسَ عَنِ الثُغورِ
رَكِبتُ مُشَمِّراً قَدَمي إِلَيها وَكُلَّ عُذافِرٍ قَلِقِ الضُفورِ
أَواناً في بُيوتِ البَدوِ رَحلي وَآوِنَةً عَلى قَتَدِ البَعيرِ
أُعَرِّضُ لِلرِماحِ الصُمِّ نَحري وَأَنصِبُ حُرَّ وَجهي لِلهَجيرِ
وَأَسري في ظَلامِ اللَيلِ وَحدي كَأَنّي مِنهُ في قَمَرٍ مُنيرِ
فَقُل في حاجَةٍ لَم أَقضِ مِنها عَلى شَغَفي بِها شَروى نَقيرِ
وَنَفسٍ لا تُجيبُ إِلى خَسيسِ وَعَينٍ لا تُدارُ عَلى نَظيرِ
وَكَفٍّ لا تُنازِعُ مَن أَتاني يُنازِعُني سِوى شَرَفي وَخَيري
وَقِلَّةِ ناصِرٍ جوزيتَ عَنّي بِشَرٍّ مِنكَ يا شَرَّ الدُهورِ
عَدُوّي كُلُّ شَيءٍ فيكَ حَتّى لَخِلتُ الأُكمَ موغَرَةَ الصُدورِ
فَلَو أَنّي حُسِدتُ عَلى نَفيسٍ لَجُدتَ بِهِ لِذي الجَدِّ العَثورِ
وَلَكِنّي حُسِدتُ عَلى حَياتي وَما خَيرُ الحَياةِ بِلا سُرورِ
يعكس هذا المقطع إحساس المتنبي بالوحدة وخذلان المحيطين به، وتفضيله للشرف على الملذات الدنيوية.
نظرة في قصيدة “أماتكم من قبل موتكم الجهل”
تعتبر هذه القصيدة من أقسى قصائد المتنبي في الهجاء، حيث يوجهها إلى خصومه بشكل عام، ويتهمهم بالجهل والغباء. يستخدم المتنبي في القصيدة أسلوبًا تهكميًا ولاذعًا لإبراز هذه الصفات السلبية.
يقول المتنبي:
أَماتَكُمُ مِن قَبلِ مَوتِكُمُ الجَهلُ وَجَرَّكُمُ مِن خِفَّةٍ بِكُمُ النَملُ
وُلَيدَ أُبَيِّ الطَيِّبِ الكَلبِ ما لَكُم فَطِنتُم إِلى الدَعوى وَمالَكُمُ عَقلُ
وَلَو ضَرَبَتكُم مَنجَنِيقي وَأَصلُكُم قَوِيٌّ لَهَدَّتكُم فَكَيفَ وَلا أَصلُ
وَلَو كُنتُمُ مِمَّن يُدَبِّرُ أَمرَهُ لَما كُنتُمُ نَسلَ الَّذي ما لَهُ نَسلُ
توضح هذه الأبيات نظرة المتنبي المتعالية إلى خصومه، واعتقاده بتفوقه الفكري عليهم.