مقدمة
إنّ أعظم النعم التي ينعم بها الله على الإنسان هي نعمة الوالدين. هما السند والعون في هذه الحياة، وهما من يرشدانه ويوجهانه نحو الطريق الصحيح. الإحسان إليهما من أفضل الأعمال التي تقرب العبد إلى ربه، وتنير له دربه في الدنيا والآخرة. وفي هذا المقال، سنتناول جوانب مختلفة من فضل الإحسان إلى الوالدين وأهميته في ديننا الحنيف.
الإحسان إلى الوالدين مظهر من مظاهر الرحمة
إن الرحمة تتجسد في أسمى صورها في العلاقة بين الآباء والأبناء. ابتسامة الوالدين هي النجاة من قسوة الحياة، وهي مصدر الدفء والأمان الذي يرافق الإنسان منذ نعومة أظفاره وحتى شيخوخته. الإحسان إلى الوالدين هو دليل على طيب النفس وتقدير المعروف، وهو أساس الخير الذي يثمر في حياة الإنسان.
إن الابن البار بوالديه يسعى إلى إرضائهما بكل ما أوتي من قوة، يزيل عنهم التعب والهم، ويخفف عنهم أعباء الحياة. في المقابل، يفتح الله له أبواب التوفيق والنجاح، ويهبه الرضا والبركة في كل خطوة يخطوها. ففي رضا الوالدين يكمن سر السعادة والنجاح.
وقد صور القرآن الكريم هذه الرحمة بأجمل صورة، حيث قال تعالى:
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24].
هذه الآية الكريمة تحث الإنسان على أن يكون لينًا ومتواضعًا مع والديه، وأن يدعو لهما بالرحمة والمغفرة، وأن يعترف بفضلهما عليه. فالإحسان إلى الأب الذي أفنى حياته في سبيل أبنائه، والإحسان إلى الأم التي تحملت كل أنواع المعاناة والتعب من أجلهم، هو أقل ما يمكن أن يقدمه الابن لوالديه.
الإحسان إلى الوالدين: باب أجر دائم
إن البركات التي ينزلها الله على الإنسان بفضل الإحسان إلى الوالدين لا حدود لها. وقد قرن الله تعالى الأمر بالإحسان إلى الوالدين بالأمر بتوحيده، فقال تعالى:
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
وهذا يدل على عظم مكانة الوالدين في الإسلام، وأن الإحسان إليهما من أفضل القربات إلى الله.
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على أهمية الإحسان إلى الوالدين في العديد من الأحاديث النبوية الشريفة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: “الكَبائِرُ: الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ، وقَتْلُ النَّفْسِ، واليَمِينُ الغَمُوسُ” [رواه البخاري].
كما قال صلى الله عليه وسلم: “أَفْضَلُ الأعْمالِ، أوِ العَمَلِ، الصَّلاةُ لِوَقْتِها، وبِرُّ الوالِدَيْنِ” [رواه مسلم].
والحديث الذي يبين البركة في عمر الإنسان البار بوالديه هو قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يردُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ ولا يزيدُ في العُمرِ إلَّا البرُّ” [رواه ابن مفلح].
فالإحسان إلى الوالدين يطيل العمر ويبارك فيه، ويجعل الإنسان سعيدًا ومرتاح البال. وقد قال صلى الله عليه وسلم عن أهمية بر الأب: “أَبَرُّ البِرِّ أنْ يَصِلَ الرَّجُلُ وُدَّ أبِيهِ” [رواه مسلم].
إن الله يفتح للإنسان البار بوالديه أبواب الأجر والخير، وييسر له أموره، ويجعل دعاءه مستجابًا. وهذا ما جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يبحث عن أويس القرني ليطلب منه أن يستغفر له، فقد قال بعد أن وجد رجلاً من قبيلته: “إنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- قدْ قالَ: إنَّ رَجُلًا يَأْتِيكُمْ مِنَ اليَمَنِ يُقَالُ له أُوَيْسٌ، لا يَدَعُ باليَمَنِ غيرَ أُمٍّ له، قدْ كانَ به بَيَاضٌ، فَدَعَا اللَّهَ فأذْهَبَهُ عنْه، إلَّا مَوْضِعَ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ، فمَن لَقِيَهُ مِنكُم فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ” [رواه مسلم].
الوالدان والأبناء: علاقة حب وعطاء مستمرة
الحياة تدور في فلك مستمر، والحب والعطاء الذي غرسه الله في قلب الإنسان يسري بين الآباء والأبناء كما يسري الماء في الشجر. فالأبناء يحملون في قلوبهم ما غرسه الآباء من قيم ومبادئ، ويسعون جاهدين لتربية أبنائهم على نفس النهج.
إن الأسرة الفاضلة هي نواة المجتمع الفاضل، ولا يمكن للأسرة أن تنجح إلا إذا كان الترابط بين أفرادها قويًا، وكان الاحترام والمودة والتعاون أساس العلاقة بينهم. فالتربية الناجحة هي التي تصنع الأمجاد، ولا يمكن أن تتحقق إلا إذا كان الأبناء بارين بوالديهم، ومقدرين لجهودهم وتضحياتهم.
الوالدان يعلمان أبناءهم دروسًا في العطاء لا حصر لها، ويعبران عن تضحيتهما بالكثير من الأفعال التي تدل على حبهما واهتمامهما بهم. فمن الرعاية والحماية في الطفولة إلى الدعم والتفهم في مرحلة الشباب إلى الإعانة والنصح في مرحلة النضج، لا ينتهي دور الوالدين أبدًا، ويبقى أثرهما في نفس الابن إلى الأبد.
الإحسان إلى الوالدين: طريق إلى رضا الله
إن رضا الوالدين ليس مجرد عمل نبيل، بل هو من أفضل الأعمال التي تقرب العبد إلى ربه، وتدخله الجنة. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “نمتُ فرأيتُني في الجنَّةِ فسَمِعْتُ صوتَ قارئٍ يقرأُ، فقُلتُ مَن هذا؟ فقالوا: هذا حارثةُ بنُ النُّعمانِ، فقالَ رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلَى آلِه وسلَّمَ-: كذلكَ البِرُّ، كذلكَ البِرُّ، وَكانَ أبرَّ النَّاسِ بأمِّهِ” [رواه الوادعي].
إن البار بوالديه يعيش في حماية الله ورعايته، وييسر الله له أموره، ويفرج عنه همومه وغمومه. وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بحسن الصحبة للوالدين، وأكد عليها ثلاثًا في الحديث المشهور: “جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: أُمُّكَ، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أبُوكَ” [رواه البخاري].
وقصة أصحاب الغار الثلاثة دليل على فضل الإحسان إلى الوالدين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ حتَّى أوَوْا المَبِيتَ إلى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عليهمُ الغَارَ، فَقالوا: إنَّه لا يُنْجِيكُمْ مِن هذِه الصَّخْرَةِ إلَّا أنْ تَدْعُوا اللَّهَ بصَالِحِ أعْمَالِكُمْ، فَقالَ رَجُلٌ منهمْ:اللَّهُمَّ كانَ لي أبَوَانِ شيخَانِ كَبِيرَانِ فَنَأَى بي في طَلَبِ شيءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عليهما حتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لهما غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُما نَائِمَيْنِ وكَرِهْتُ أنْ أغْبِقَ قَبْلَهُما أهْلًا أوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ والقَدَحُ علَى يَدَيَّ، أنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا ما نَحْنُ فيه مِن هذِه الصَّخْرَةِ” [رواه البخاري].
فبفضل عمله الصالح، فرج الله عنهم وأزاح عنهم الصخرة.
المراجع
- سورة الإسراء، آية: 24
- سورة الإسراء ، آية: 23
- رواه البخاري ، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمر ، الصفحة أو الرقم:6675.
- رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عبد الله بن مسعود، الصفحة أو الرقم:85.
- رواه ابن مفلح، في الآداب الشرعية ، عن سلمان الفارسي ، الصفحة أو الرقم:1/410.
- رواه مسلم ، في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمر ، الصفحة أو الرقم:2552.
- رواه مسلم ، في صحيح مسلم ، عن أسير بن جابر ، الصفحة أو الرقم:2542 .
- رواه الوادعي ، في الصحيح المسند، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:1555.
- رواه البخاري ، في صحيح البخاري ، عن أبو هريرة ، الصفحة أو الرقم: 5971.
- أرواه البخاري ، في صحيح البخاري ، عن عبد الله بن عمر ، الصفحة أو الرقم:2272.