فهرس المحتويات
النطاق المشروع للبكاء عند الفقد
إظهار التأثر بالدموع والحزن عند فقد عزيز أمر مباح وفقًا لجمهور العلماء. هذا الإباحة مستمدة من السنة النبوية الشريفة وأقوال الصحابة الكرام. ففي الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما توفي ابنه إبراهيم، ذرفت عيناه، وعندما استغرب عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- هذا الفعل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
“يا ابْنَ عَوْفٍ إنَّهَا رَحْمَةٌ.. إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ”
إن وقوع المصائب، خاصة فقدان الأحبة، هو جزء من طبيعة الحياة. ينبغي للمسلم أن يتحلى بالصبر والاحتساب، خاصة في اللحظات الأولى للصدمة، ولكن هذا الصبر لا يتعارض مع إظهار الحزن بالدموع. فالدموع هي تعبير طبيعي عن الألم والشوق، وهي دليل على رقة القلب والإنسانية.
إن استغراب الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- نابع من اعتقاده بأن البكاء قد يتعارض مع الصبر والرضا بقضاء الله. لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوضح له أن إظهار الحزن بالدموع لا ينافي التسليم بقضاء الله وقدره. وفي موقف آخر، عندما بكى النبي -صلى الله عليه وسلم- عند وفاة حفيدته زينب -رضي الله عنها- وهي طفلة صغيرة، قال:
“هذِه رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ في قُلُوبِ عِبَادِهِ، وإنَّما يَرْحَمُ اللَّهُ مِن عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ”
إن الحزن والفرح هما جزء من الطبيعة البشرية، والإسلام لا يعارض هذه الطبيعة، بل يوجهها ويهذبها. لذلك، فإن البكاء على الميت جائز شرعًا، ما لم يصاحبه أفعال محرمة مثل النواح والصراخ، والتي تعتبر منافية للصبر والرضا بقضاء الله.
وقد لخص الإمام الغزالي -رحمه الله- أهم أحكام البكاء على الميت، حيث قال: “سُنَّةٌ إلى ثَلاَثةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ الحَمْلُ عَلَى الصَّبْرِ بِوَعْدِ الأَجْرِ وَالدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ وَلِلْمُصَابِ، وَيُعَزَّى المُسْلِمُ بِقَرِيبِهِ الكَافِرِ وَالدُّعَاءِ لِلْحَيِّ، وُيعَزَّى الكَافِرُ بِقَرِيبِهِ المُسْلِمِ وَالدُّعَاءِ لِلمَيِّتِ، وَيُسْتَحَبُّ تَهْيئَةُ طَعَامٍ لِأَهْلِ المَيِّتِ، وَالبُكاءُ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ نَدْبٍ وَلاَ نِيَاحَةٍ وَمِنْ غَيْرِ جَزَعٍ وَضَرْبِ خَدٍّ وَشَقِّ ثَوْبٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ، وَلا يُعَذَّبُ المَيِّتُ بِنِيَاحَةِ أَهْلِهِ إلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهِ، فَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى”.
أنواع البكاء المنهي عنها عند الفقد
يحرم في الشريعة الإسلامية أنواع من البكاء تتجاوز حدود الحزن الطبيعي وتنافي الصبر والرضا بقضاء الله. هذه الأنواع تشمل النياحة، والندب، والصراخ، والعويل، والتلفظ بكلمات الجزع والسخط.
وقد ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استيقظ من نومه وسمع نساءً يبكين على حمزة -رضي الله عنه-، فقال:
“ويحَهنَّ ما انقلبنَ بعدُ مُروهنَّ فلينقلبنَ ولا يبكينَ علَى هالِكٍ بعدَ اليومِ”
وهذا الحديث يشير إلى أن البكاء المنهي عنه هو الذي يصاحبه صوت عال ونياح، مما يدل على الجزع وعدم التسليم بقضاء الله.
كما ثبت في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
“ليسَ مِنَّا مَن لَطَمَ الخُدُودَ، وشَقَّ الجُيُوبَ، ودَعَا بدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ”
وهذا الحديث يدل على أن هذه الأفعال ليست من هدي الإسلام، وأنها تنافي الصبر والرضا.
وفي المقابل، يمدح الله -سبحانه وتعالى- الذين يبكون من خشية الله أو عند سماع القرآن، ويعتبر بكاءهم دليلًا على رقة قلوبهم وخشيتهم لله. كما يجوز نعي الميت، وهو إخبار الناس بوفاته مع الدعاء له والمواساة لأهله، ما لم يصاحب ذلك نياحة أو أفعال محرمة.
وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
“أَرْبَعٌ في أُمَّتي مِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ، لا يَتْرُكُونَهُنَّ: الفَخْرُ في الأحْسابِ، والطَّعْنُ في الأنْسابِ، والاسْتِسْقاءُ بالنُّجُومِ، والنِّياحَةُ، وقالَ: النَّائِحَةُ إذا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِها، تُقامُ يَومَ القِيامَةِ وعليها سِرْبالٌ مِن قَطِرانٍ، ودِرْعٌ مِن جَرَبٍ”
هل ينافي ذرف الدموع الصبر والتسليم؟
لا يتعارض البكاء المشروع على الميت مع الصبر والرضا بقضاء الله. فالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو خير الخلق، بكى على وفاة ابنه إبراهيم. وهذا يدل على أن البكاء هو تعبير طبيعي عن الحزن والفقد، وهو لا ينافي الصبر والتسليم.
لكن الفرق يكمن في كيفية التعبير عن الحزن. فالمسلم الصابر هو الذي يصبر على المصيبة ويحتسب الأجر عند الله، ولا يتجاوز الحدود الشرعية في التعبير عن حزنه. وقد قال الله -تعالى-:
“إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ”
فالصبر على المصائب هو من أعظم الأعمال التي يوفق لها المسلم، ولا يتحقق الصبر إلا بالرضا بقضاء الله وقدره. وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
“مَن يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وما أُعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ”
والصبر الواجب في هذه الحالات هو حبس القلب عن الجزع، واللسان عن التشكّي والنواح، والجوارح عن الضرب وشقّ الثياب. وأفضل ما يقال في هذه الحالات هو: “قدّر الله وما شاء فعل، والحمد لله على كل حال”. ولذلك، فإن من أفضل التعازي هي قول: “إنا لله وإنا إليه راجعون، لله ما أعطى ولله ما أخذ”، فهي تعبر عن الرضا بقضاء الله وقدره.
هل يتأثر المتوفى بدموع الأحياء من أقاربه؟
تعددت آراء العلماء في مسألة تأثر الميت ببكاء أهله عليه، ويمكن تلخيصها فيما يلي:
- يرى جمهور العلماء أن الميت قد يتأثر بالبكاء عليه إذا كان قد أوصى به، فيعذب بسبب وصيته.
- بينما ترى أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وبعض العلماء كالشافعي ومالك وابن عبد البر، أن الميت لا يتأثر ببكاء أهله عليه، ويجوز البكاء عليه من دون نياحة وصراخ.
- ويرى البخاري وبعض العلماء أن الميت يتأثر ببكاء أهله إذا كان من عادتهم النياحة على الموتى وهو لم ينههم عن ذلك، فيعذب بذلك.
- وقال بعض العلماء بتأثر الميت ببكاء الناس عليه وكرهوا هذا الفعل، وهو قول ابن عمر.
لكن الرأي الراجح عند جمهور العلماء هو أن الميت لا يعذب ببكاء أهله عليه إلا إذا كان قد أوصى بالنياحة عليه قبل موته. فالإسلام دين العدل، ولا يحمل الإنسان وزر غيره. وقد قال الله -تعالى-:
“وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أُخرى”
وبناءً على ذلك، فالخلاصة أن البكاء جائز ما لم يصاحبه نياحة وتوابعها بالإجماع، وأن التعزية جائزة في الأيام الثلاثة الأولى، وتصحب بكلام يعين أهل الميت على الصبر والدعاء للميت، ويستحب تهيئة الطعام لأهل المتوفى.
والمقصود بكلمة “يُعَذَّب” هو أن الميت قد يتألم إذا سمع أهله يبكون عليه، وهذا يكون في حياة البرزخ، وقد قال بهذا الرأي الإمام الطبري وغيره من العلماء. وشرحوا هذا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
“السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ”
فلا يعني ذلك أن السفر عذاب حقيقي، بل هو تشبيه بالعذاب في المشقة والتعب.