مدخل إلى عالم الشعر الملحمي
الشعر الملحمي، في جوهره، يمثل نوعًا أدبيًا يعتمد على سرد القصص. إنه عبارة عن حكاية أو سلسلة من الأحداث تروى بأسلوب شعري رفيع المستوى. يتميز هذا النوع الأدبي باستخدام الصور البلاغية، والتحسينات اللفظية، والأوصاف التفصيلية التي تساهم في توضيح الفكرة ونقلها إلى القارئ بشكل حيوي. تُعرف الملحمة بأنها قصيدة طويلة تسرد مغامرات بطولية وقومية، وتتضمن عناصر خارقة للطبيعة، وتقاليد متنوعة، ومزجًا فريدًا بين الحقائق والأساطير، بالإضافة إلى تداخل القيم الروحية والدينية في كل جوانبها.
تجسد الملحمة الهوية القومية، حيث تعكس تاريخ الشعوب وجذورها من خلال الروابط الدينية، والاجتماعية، والفكرية، والفلسفية. كما أنها تعبر عن الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتسلط الضوء على الجوانب البطولية للقادة والشخصيات البارزة.
إظهار صفات البطولة
تبرز صفات البطولة كقيمة جوهرية في التراث الشعبي، وهذا ينبع من القيمة الإنسانية العميقة التي تسعى الملاحم إلى إبرازها في الشعر الملحمي على مر العصور. الشخصيات البطولية هي أساس لا يمكن الاستغناء عنه في الملاحم، ويعود ذلك إلى طبيعة الحضارات القديمة التي كانت ترتكز شعوريًا ولا شعوريًا على القيمة الجماعية لكل عمل.
هناك دافع قوي لتمجيد البطولات ينبع من الخوف من الشر الذي لم يكن الإنسان القديم يعرف مصدره، إضافة إلى التباهي بشجاعة الأبطال الذين يمثلون الأمل الوحيد للخلاص الجماعي.
الأسلوب السردي
القصة هي الركيزة الأساسية للشعر الملحمي، حيث تدور الأحداث حول حقبة تاريخية معينة، مع سرد القصص التي وقعت خلالها. قد تتعدد القصص في الملحمة الواحدة، مثلما هو الحال في ملحمة الإلياذة، وهي قصيدة طويلة كتبت على البحر السداسي، وهو من البحور الشائعة في الملاحم الشعرية القديمة.
تتألف الإلياذة من أكثر من خمسة عشر ألف بيت شعري موزون، وتتضمن العديد من القصص المتنوعة.
اتساع الآفاق وتعدد الأفكار
تمتزج الأحداث والوقائع الحقيقية بالأساطير الخيالية في الشعر الملحمي، مما يؤدي إلى تنوع وتشعب الأفكار والقضايا المطروحة. نظرًا لعدم وجود حدود فاصلة بين الحقيقة والأسطورة، يصبح تضخيم الأحداث والمبالغة فيها جزءًا أساسيًا من الشعر الملحمي. يظهر ذلك بوضوح في الملاحم الشعرية الدينية التي تشير إلى الطقوس المتبعة في تعظيم الآلهة.
بالإضافة إلى ذلك، يتم توظيف الفلسفة لتفسير الأحداث وإضفاء معانٍ أعمق عليها. ومن الأمثلة البارزة على الملاحم الشعرية التي تتميز بتشعب الأفكار ملحمة جلجامش، وهي قصيدة غير موزونة تعبر عن الوعي الإنساني البدائي.
التركيز على الحقائق والابتعاد عن الذاتية
تعتبر الموضوعية حجر الزاوية في الملاحم، وتعني هنا إقصاء ذات الكاتب. على سبيل المثال، لم يقم هوميروس بإقحام ذاتيته في الإلياذة، بل ترك المجال للشخصيات للتعبير عن الوقائع من خلال أفعالها وتصرفاتها.
ومع ذلك، هناك بعض الملاحم التي تعد استثناءً، حيث أدخلت ذات الكاتب وأضفت من شخصيته على الأحداث، ولكن هذا الأمر نادر الحدوث.
ومن أهم القصائد الملحمية التي تميزت بالطابع الموضوعي قصيدة الإلياذة لهوميروس، التي يقول فيها:
أفلّون هاتيك العزائم مانحُ
وهكطور للإبلاءِ والحرب جانحُ
كمهرٍ عتيٍّ فاض مطعمهُ على
مرابطهِ يبتتُّها وهو جامحُ
ويضرب في قلب المفاوز طافحًا
إلى حيث وجه الأرض بالسيل طافحُ
يروّض فيه إِثْرَ ما اعتادَ نفسهُ
ويطربُ أن تبدو لديه الضحاضحُ
وَيشمخُ مختالًا بشائق حسنه
يطير وأعراف النواصي سوابحُ
وتجري به من نفسها خُطَواتُه
إلى حيث غصَّت بالحجور المسارحُ
الطول في عدد الكلمات
تتميز الأشعار الملحمية بطولها الشديد، حيث تتضمن عددًا كبيرًا من الكلمات والأبيات الشعرية.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك أشعار اليونان القديمة. ومع ذلك، لم يصلنا سوى جزء صغير من الشعر الملحمي الإغريقي، ويقدر بنحو العشر من الأدب الملحمي الإغريقي بأكمله.
يعود السبب في ذلك إلى أن الأدب الإغريقي كان أدبًا شفاهيًا ومسموعًا، ولم يتم تدوينه إلا بعد فترة طويلة، حيث قام الأدباء بتدوينه في أواخر العصر الإغريقي.
فخامة التعبير
تمتاز الملاحم الشعرية القديمة بلغة قوية وأسلوب سامي لا يشوبه الضعف. ومن الأمثلة البارزة على الملاحم الشعرية القديمة التي تميزت بفخامة الأسلوب ملحمة جلجامش.
تعتبر ملحمة جلجامش مجموعة ضخمة من الأسفار المتواصلة التي تبحث عن أثمن شيء في الوجود. يبرز الطابع الجمالي في الملحمة مدى الجهد المبذول فيها، بالإضافة إلى أهمية القضية التي تتناولها، وهي بحث الإنسان عن الحقيقة. يتميز أسلوب كتابة الملحمة بالفخامة والإتقان، مما ساهم في زيادة اهتمام الباحثين بها حتى يومنا هذا.
المراجع
- كريمة بن حليمة وشهرزاد بن خلاط، البعد الملحمي في شعر صالح الخرفي ديوان أطلس المعجزات، صفحة 63-75. بتصرّف.
- كريمة بن حليمة وشهرزاد بن خلاط، البعد الملحمي في شعر صالح الخرفي ديوان أطلس المعجزات، صفحة 5-20. بتصرّف.
- هوميروس، الإلياذة، صفحة 11-12. بتصرّف.
- حامد سرمك حسن، ملحمة كلكامش دراسة في القضايا والأصول، صفحة 107-118. بتصرّف.
- هوميروس، الإلياذة، صفحة 41. بتصرّف.
- أحمد عثمان، الشعر الإغريقي تراثا إنسانيا، صفحة 4-6. بتصرّف.