مقدمة
تُعتبر المقامة البغدادية للهمذاني تحفة أدبية فريدة، حيث تتجلى فيها براعة الكاتب في استخدام اللغة وتوظيف المحسنات البديعية. تتميز المقامة بأسلوبها السلس والممتع، ونثرها المسجوع الذي يضفي عليها رونقًا خاصًا وإيقاعًا موسيقيًا آخاذًا. تتضمن هذه المقامة مجموعة متنوعة من الزخارف اللفظية التي تزيد من جمال النص وتأثيره في القارئ.
أنواع الزخارف اللفظية في المقامة البغدادية
تزخر المقامة البغدادية بأنواع عديدة من المحسنات اللفظية التي أبدع الهمذاني في استخدامها. هذه المحسنات تساهم في إبراز جمال اللغة وإضفاء طابع فني مميز على النص.
السجع
يُعد السجع من أبرز السمات المميزة للمقامة، حيث يتجلى في توافق أواخر الجمل والفقرات في الحرف أو الحرفين الأخيرين. يضفي السجع على النص نغمًا موسيقيًا جذابًا ويجعله أكثر سلاسة وإيقاعًا. ومن الأمثلة على السجع في المقامة البغدادية:
- “اشتهَيْتُالأزَاذَ، وأنَاببَغدَاذَ.”
- “يَسُوقُ بِالجَهْدِحِمِارَهُ، وَيُطَرِّفُ بِالعَقْدِإِزَارَهُ.”
- “ظَفِرْنَا وَاللهِبِصَيْدٍ، وَحَيَّاكَ اللهُ أَبَازَيْدٍ.”
- “وَأَيْنَنَزَلْتَ؟ وَمَتَىوَافَيْتَ؟ وَهَلُمَّ إِلَىالبَيْتِ.”
- “لَسْتُ بِأَبِيزَيْدٍ، وَلَكِنِّي أَبُوعُبَيْدٍ.”
- “لَعَنَ اللهُالشَّيطَانَ، وَأَبْعَدَالنِّسْيانَ.”
- “قدْ نَبَتَ الرَّبِيعُ عَلَىدِمْنَتِهِ، وَأَرْجُو أَنْ يُصَيِّرَهُ اللهُ إِلَىجَنَّتِهِ.”
- “وَالسُّوقُأَقْرَبُ، وَطَعَامُهُأَطْيَبُ.”
- “يَتَقَاطَرُ شِوَاؤُهُعَرَقاً، وَتَتَسَايَلُ جُواذِبَاتُهُمَرَقاً.”
- “مِنْ هَذاالشِّواءِ، ثُمَّ زِنْ لَهُ مِنْ تِلْكَالحَلْواءِ.”
- “مِنْ تِلْكَالأَطْباقِ، وانْضِدْ عَلَيْهَا أَوْرَاقَالرُّقَاقِ.”
- “فَأنْخَى الشَّوّاءُبِسَاطُورِهِ، عَلَى زُبْدَةِتَنُّورِهِ.”
- “فَجَعَلها كَالكُحْلِسَحْقاً، وَكَالطِّحْنِدَقّاً.”
- “ثُمَّ جَلسَوَجَلَسْتُ، ولا يَئِسَ وَلايَئِسْتُ.”
الموازنة
تعتمد الموازنة على التوازن الصوتي بين الجمل أو العبارات من خلال توافقها في عدد الكلمات والوزن والإيقاع. تساهم الموازنة في خلق تناغم موسيقي في النص وتزيد من تأثيره الجمالي. ومن الأمثلة على الموازنة:
- “رَقِيقَالقِشْرِ، كَثِيفِالحَشْو.”
الجناس الناقص
يتمثل الجناس الناقص في وجود تشابه كبير بين كلمتين في اللفظ مع اختلافهما في المعنى أو في أحد الحروف. يضفي الجناس الناقص على النص لمسة جمالية ويعزز من قدرته على جذب انتباه القارئ. من أمثلة الجناس الناقص:
- “وَلَيِسَ مَعْيعَقْدٌعَلىنَقْدٍ.”
- “يَدَالبِدَارِ، إِليالصِدَارِ.”
- “يَذُوبُكَالصَّمْغِ، قَبْلَالمَضْغِ.”
- “لِيَقْمَعَ هَذِهِالصَّارَّةَ، وَيَفْثأَ هذِهِ اللُّقَمَالحَارَّةَ.”
- “فَلَكَمَهُلَكْمَةً، وَثَنَّى عَلَيْهِبِلَطْمَةٍ.”
المقابلة
تقوم المقابلة على الجمع بين معنيين متقابلين أو متضادين في جملة واحدة أو عبارتين متجاورتين. تساهم المقابلة في إبراز المعنى وتوضيحه من خلال إظهار التناقض بين الأفكار. من أمثلة المقابلة:
- “أَشَابٌ كَعَهْدي، أَمْ شَابَ بَعْدِي؟”
التصريع
التصريع هو اتفاق قافية الشطر الأول من البيت مع قافية الشطر الثاني. هذا المحسن البديعي يختص بالشعر ويعطي جرساً موسيقياً جميلاً. مثال على التصريع:
- أَعْمِلْ لِرِزْقِكَ كُلَّآلـهْ* لاَ تَقْعُدَنَّ بِكُلِّحَـالَـهْ.
حسن التعليل
حسن التعليل هو أن يعلل الشاعر أو الكاتب أمراً بوصف بديع ومناسب غير حقيقي. ومن أمثلة حسن التعليل:
- “هَلُمَّ إِلى البَيْتِ نُصِبْ غَدَاءً، أَوْ إِلَى السُّوقِ نَشْتَرِ شِواءً،وَالسُّوقُ أَقْرَبُ، وَطَعَامُهُ أَطْيَبُ.”
الاقتباس
الاقتباس هو تضمين جزء من القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف في النص. يعتبر الاقتباس من المحسنات البديعية التي تضفي على النص قيمة دينية وروحانية. ومن الأمثلة على الاقتباس:
- “إِنَّا للهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ”.
نص المقامة البغدادية
يروي بديع الزمان الهمذاني في المقامة البغدادية قصة عيسى بن هشام، حيث يقول:
“حدَّثَنَا عيَسى بنُ هشامٍ قالَ: اشتهَيْتُ الأزَاذَ، وأنَا ببَغدَاذَ، وليِسَ معْي عقدٌ على نقدٍ، فخَرجْتُ أنتَهِزُ محالَّهُ حتَّى أحلَّنِي الكَرخَ، فإذَا أنَا بسَواديٍّ يسُوقُ بالجهْدِ حمِارَهُ، ويَطَرِّفُ بالعَقدِ إزَارَهُ، فقلْتُ: ظفِرْنَا واللهِ بصَيدٍ، وحيَّاكَ اللهُ أبَا زَيدٍ، منْ أينَ أقبَلْتَ؟ وأيْنَ نزَلتَ؟ ومتَى وافَيتَ؟ وهلُمَّ إلَى البيتِ.
فقَالَ السَّواديُّ: لستُ بأبِي زَيدٍ، ولَكنِّي أَبو عبَيدٍ، فقُلتُ: نعَمْ، لعَنَ اللهُ الشَّيطانَ، وأَبعَدَ النِّسيانَ، أنسَانِيكَ طولُ العهدِ، واتصَالُ البُعدِ، فكَيفَ حالُ أبِيكَ ؟ أشَابٌ كعَهدي، أمْ شابَ بَعدِي؟ فقَالَ: قدْ نبَتَ الرَّبيعُ علَى دمنَتِهِ، وأَرجُو أنْ يصيِّرَهُ اللهُ إلَى جنَّتِهِ، فقُلتُ: إنَّا لله وإنَّا إِلَيْه راجعُونَ، ولاَ حوْلَ ولاَ قوةَ إلاَّ باللهِ العلِيِّ العظِيم، ومدَدْتُ يدَ البدَارِ، إِلي الصدَارِ، أرِيدُ تمْزِيقَهُ.
فَقبضَ السوادِيُّ على خصْرِي بجمُعْهِ، وقَالَ: نشَدتُكَ اللهَ لا مزَّقتَهُ، فقُلتُ: هلُمَّ إِلى البيتِ نصِبْ غدَاءً، أَو إلَى السُّوقِ نَشترِ شواءً، والسُّوقُ أَقربُ، وطَعامُهُ أَطيبُ، فاستَفَزَّتْهُ حمَةُ القرَمِ، وعطَفَتْهُ عاطِفُةُ اللَّقَمِ، وطَمِعَ، ولَمْ يعلَمْ أنَّهُ وقَعَ، ثمَّ أتيْنَا شوَّاءً يتقَاطَرُ شوَاؤُهُ عرقاً، وتتَسَايَلُ جوذاباتُهُ مرقاً، فقلْتُ: افرِزْ لأبِي زَيدٍ منْ هذا الشِواءِ، ثمَّ زنْ لهُ منْ تلْكَ الحلواءِ.
واخترْ لهُ منْ تلكَ الأطباقِ، وانضِدْ عليْهَا أورَاقَ الرُّقاقِ، وَرشَّ عَليهِ شَيئَاً منْ ماءِ السُّمَاقِ، ليأكُلَهُ أبُو زَيدٍ هنيًّا، فانْحنى الشَّواءُ بِساطُورِهِ، علَى زُبدَةِ تنُّورِهِ، فَجعَلها كالكحْلِ سَحقًا، وكالطِّحْنِ دقْا، ثمَّ جلسَ وجلَسْتُ، ولا يئِسَ ولا يئِستُ، حتَّى استَوفَيْنَا، وَقلتُ لِصاحِبِ الحلوَى: زنْ لأبي زيْدٍ منَ اللُّوزينج رطلَيْنِ فَهوَ أَجرَى فِي الحُلوقِ، وَأمضَى فِي العرُوقِ، وليَكُنْ ليلي العُمرِ، يومِيَّ النَّشرِ، رقِيقَ القِشرِ، كثِيفِ الحشو، لؤْلؤِيَّ الدُّهنِ، كوكَبيَّ اللَّونِ.
يذُوبُ كالصَّمْغِ، قَبلَ المضْغِ، ليَأْكُلهُ أَبو زيدٍ هنِيًّا، قالَ: فوَزنَهُ ثمَّ قعَدَ وقَعدْتُ، وَجرَّدَ وَجرَّدْتُ، حتىَّ استَوْفَيْنَاهُ، ثمَّ قُلتُ: يا أبَا زَيْدٍ ما أَحوجَنَا إلَى ماءٍ يشعْشِعُ بالثَّلجِ، لِيقمَعَ هذِهِ الصَّارَّة، وَيفثأَ هذهِ اللُّقمَ الحارَّةَ، اجلِسْ يا أبَا َزيدٍ حتَّى نأتِيكَ بِسقَّاءٍ، يَأتِيكَ بِشَربةِ ماءٍ، ثمَّ خَرجتُ وَجَلستُ بِحيثُ أَراهُ ولا يرانِي أَنظرُ ما يَصنعُ، فَلمَّا أَبطأتُ عَليهِ قَام السَّواديُّ إِلى حمَارِهِ.
فَاعتلَقَ الشَّوَّاء بِإِزارِهِ، وَقالَ: أَينَ ثَمنُ ما أَكَلتَ؟ فَقالَ: أَبو زَيدٍ: أَكَلتهُ ضَيفًا، فَلكمهُ لَكمةً، وَثنَّى عَليهِ بِلطمَةٍ، ثمَّ قالَ الشَّوَّاءُ: هاكَ، ومتَى دَعونَاكَ؟ زنْ يَا أَخا القحَةِ عِشرِينَ، فَجعلَ السَّوَاديُّ يَبكِي وَيَحلُّ عُقدهُ بِأَسنانِهِ وَيقولُ: كمْ قُلتُ لِذاكَ القرَيْدِ، أَنا أَبو عُبيْدٍ، وهوَ يَقولُ: أَنت أَبو زَيدٍ، فَأنشَدْتُ:
أعْمِلْ لرِزْقِكَ كلَّ آلـهْلا تقعُدَنَّ بكُلِّ حـالَـهْوانْهَضْ بكُلِّ عظِيَمةٍفالمَرءُ يعجِزُ لا محَالَهْ”
نظرة عامة على علم البديع
علم البديع هو أحد فروع علوم البلاغة العربية، ويعنى بتحسين الكلام وتزيينه بعد استيفائه شروط الفصاحة والبلاغة. يهدف هذا العلم إلى إضفاء جمالية خاصة على النص من خلال استخدام مجموعة متنوعة من الأساليب والتقنيات اللغوية.
يقسم علماء البلاغة علم البديع إلى قسمين رئيسيين:
- المحسنات اللفظية: وهي الأساليب التي تهتم بتحسين اللفظ وإضفاء جمالية صوتية عليه، مثل الجناس والسجع والموازنة والتصريع.
- المحسنات المعنوية: وهي الأساليب التي تركز على تحسين المعنى وإبرازه بشكل فني، مثل الطباق والمقابلة والتورية وحسن التعليل.
المراجع
- ساري بن محمد الزهراني،المقامة البغدادية لبديع الزمان الهمذاني دراسة نقدية تطبيقية، صفحة 188. بتصرّف.
- عبد العزيز عتيق،علم البديع، صفحة 76. بتصرّف.