رحلة في تاريخ السيكولوجيا: من الفلسفة إلى العلم

استكشاف تاريخ علم النفس وتطوره، بدءًا من جذوره الفلسفية في اليونان القديمة، مرورًا بمدرسة الإسكندرية، وصولًا إلى الفكر العربي والإسلامي، ثم الفلسفة الأوروبية وعصور النهضة، وانتهاءً باستقلالية الدراسات النفسية.

تمهيد عن علم النفس

يُعرف علم النفس العام بأنه العلم الذي يعنى بدراسة النفس البشرية والظواهر السلوكية، وفهم علاقتها بتفاعلات الفرد مع بيئته الداخلية والخارجية. يسعى هذا العلم إلى فهم الأحاسيس والتجارب التي يمر بها الإنسان، بالإضافة إلى دراسة الاضطرابات العضوية والبيولوجية التي قد تصاحب هذه التجارب، مثل اضطرابات الجهاز التنفسي وارتفاع ضغط الدم.

يهتم علم النفس العام بتحليل التغيرات التي تطرأ على الفرد في مختلف حالاته، وكيفية إدراكه للأمور عند التفكير والشعور والإبداع. كما يدرس ما وراء السلوك الإنساني في حالات الاضطرابات والأمراض العقلية والنفسية والعضوية. يتفرع علم النفس العام إلى فروع متعددة، مثل علم النفس الصناعي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس التربوي، وعلم النفس الحربي، وغيرها من الفروع التي تتطور باستمرار.

نظرة عامة على مسار علم النفس عبر التاريخ

يعتبر علم النفس من العلوم القديمة التي تعود إلى زمن الفلاسفة قبل الميلاد. في بدايته، كان فرعًا من فروع الفلسفة. ومع مرور الوقت، اعتمد العلماء الأسلوب العلمي التجريبي الذي يعتمد على الملاحظة والمشاهدة للسلوك الظاهري. فيما يلي نظرة على آراء الفلاسفة القدماء في هذا المجال.

الأفكار السيكولوجية في الفكر اليوناني القديم

اهتم الفلاسفة في هذه المرحلة بدراسة وفهم السلوك الإنساني وتحديد مكانة الإنسان في الحياة. اشتهر طاليس، مؤسس الفلسفة القديمة، بمقولته الشهيرة “اعرف نفسك”. بالإضافة إلى ذلك، حاول طاليس دراسة وفهم قضايا مثل وجود الإنسان وبدايته ونهايته، وخلص إلى أن الإنسان يتكون من عنصرين منفصلين: الجسد المادي والروح أو النفس. اختلفت آراء فيثاغورس مع المبادئ الدينية في مراحل لاحقة من التاريخ، حيث كان يرى أن الروح يمكن أن تنتقل من جسد إلى آخر بعد الموت، وهو ما يعرف بتناسخ الأرواح. أما سقراط، الذي اتفق مع طاليس في آرائه، فقد طورها ورأى أن الروح أو النفس البشرية هي جزء من الروح الإلهية، وبالتالي فهي قادرة على السيطرة الكاملة على الجسم والتحكم في الرغبات والشهوات.

مدرسة الإسكندرية وغالينوس: رؤى سيكولوجية

في القرن الثالث قبل الميلاد، تطورت الدراسات التجريبية والبحوث العلمية التي اهتمت بالمجال الطبي والفسيولوجي. وضعت هذه البحوث الفرضيات والتصورات حول النفس البشرية وفهم العلاقة بين نشاطاتها ومظاهرها التفاعلية الخارجية من جهة، وبين البنية الجسمية المادية ووظائف الأعضاء الداخلية من جهة أخرى. أكد مجموعة من الأطباء في الإسكندرية، وعلى رأسهم هيروفيل وإيراز سترات، العلاقة الكامنة بين عمليات التفكير والإدراك، وبين التلافيف الدماغية والأنسجة العصبية ومدى تأثيرها على تصرفات الفرد وتفاعلاته الداخلية. في القرن الثاني قبل الميلاد، أكد الطبيب الروماني غالينوس على وجود علاقة متينة بين الجانب النفسي للفرد والبناء الجسدي العضوي، وبذلك يكون أول من عمم الأساس البيولوجي والفسيولوجي للإنسان.

الفكر السيكولوجي في الحضارة العربية والإسلامية

ظهر في الحضارة العربية والإسلامية العديد من العلماء والمفكرين والفلاسفة المسلمين الذين كان لهم الفضل الكبير في حفظ التراث الفكري وترجمته وإثرائه. من بين أهم الفلاسفة الذين كتبوا في النفس البشرية الكندي، الذي تأثر بآراء أفلاطون وأرسطو من الفلاسفة اليونانيين. كان يرى أن النفس هي جزء من الروح الإلهية التي تسكن الجسم البشري بعد ولادته، ولها أن تسير الفرد وتتحكم في تصرفاته، إلا أن هناك أخطاء وزلات يقع فيها الإنسان نتيجة لدافع الغضب أو الشهوة.

اشترك الفارابي في الكثير من الآراء مع الكندي في نظرته إلى النفس الإنسانية. أما ابن سينا، فكان يرى أن هناك تباينًا كبيرًا بين النفس الإنسانية والبنية الجسدية، فهي تندمج معه عند الولادة وتفارقه عند الموت، لتذهب إلى خالقها فتبعث وتحاسب على ما قامت به في الحياة الدنيا، فهي خالدة لا تفنى بفناء جسدها. كما اهتم ابن سينا بدراسة العلاقة بين الظواهر النفسية والظروف البيئية. أما ابن خلدون، فكان يرى أن الإنسان يملك القدرات الفكرية التي ترفعه وتميزه عن غيره من الكائنات الحية، وأضاف أهمية الأثر الكبير للعوامل البيئية الخارجية؛ كالمناخ، والحياة الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى التربية والتنشئة الأسرية في النمو النفسي السليم للطفل، وأهمية الدور المهم للتطور الثقافي. كان اعتماد ابن خلدون على الطرق العلمية في الدراسات والبحوث يجعله أقرب إلى دراسات ونظريات علم النفس الحديثة.

قال تعالى في سورة القيامة: “لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)”

وفي حديث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى”

الفلسفة الأوروبية في عصر النهضة: منظور سيكولوجي

في مطلع القرن السابع عشر، ومع بداية عصر النهضة في أوروبا، أصبحت دراسات وبحوث العلماء والفلاسفة أكثر اهتمامًا وتركيزًا على القضايا الخاصة بالمجتمع والطبيعة بشكل عام وقضايا النفس البشرية بشكل خاص. من أوائل الفلاسفة الذين اهتموا بالدراسات النفسية الفيلسوف الفرنسي ديكارت، الذي رأى أن سلوك الكائن الحي يشبه في سيره طريقة عمل الآلة، أي إنه فسر السلوك من مبدأ الانعكاس والاستجابات اللاإرادية للمثيرات الخارجية التي يتفاعل معها الكائن الحي للوصول إلى مرحلة التكيف. كما تحدث العالم جون لوك عن نفيه لوجود قدرات أو مهارات موروثة للطفل، أي إنه يولد بصفحة بيضاء ويأخذ المجتمع مهمة إكسابه الظواهر السلوكية المختلفة وتشكيلها، وبالتالي تتوسع خبرات الإنسان ومعارفه مع تقدمه في العمر. قسم لوك المراجع الأساسية للخبرات الإنسانية إلى مرجعين أو مصدرين: الخبرة الداخلية المتمثلة في نشاطات واستجابات الأعضاء الحسية، والأنشطة والتصورات الذاتية للعقل. كانت هناك العديد من الإسهامات الدراسية والبحثية للعلماء والفلاسفة في هذه الفترة.

الاستقلال العلمي للدراسات النفسية

ظهر علم النفس بشكل مستقل عن العلوم الفلسفية في بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد العالم الألماني فونت، الذي أقام بدوره أول مختبر للدراسات والبحوث السيكولوجية. أخذ علم النفس شكله التنظيمي، بتحديد مواضيعه وفروعه والمناهج البحثية التي يدرس من خلالها، بالإضافة إلى علاقته بالعلوم والمعارف الأخرى.

المراجع

  1. الديوان الوطني للتعليم والتكوين عن بعد، علم النفس، الجزائر: وزارة التربية الوطنية، صفحة 1-2.
  2. أبتثجحبدر عامود (2001)، علم النفس في القرن العشرين، سوريا-دمشق: اتحاد الكتاب العرب، صفحة 24-45.
  3. جامعة بابل-كلية التربية الأساسية.
Total
0
Shares
اترك تعليقاً
المقال السابق

التطور التاريخي لعلم الفلك

المقال التالي

التطور التاريخي لراية سويسرا

مقالات مشابهة