تحليق العصفورة في الأجواء
في ذلك الفضاء الشاسع، كانت هناك عصفورة صغيرة تجوب السماء بحرية. طائر صغير يرفرف بجناحيه، يرقص بين أغصان الأشجار، ويتمايل بين بتلات الزهور. كانت العصفورة تستمتع بأيام شبابها، ترتسم البسمة على وجهها، وتغرد بأعذب الألحان، حاملة في صوتها كل الآمال. ولكن الأقدار كانت تخبئ لها ما لم يكن في الحسبان.
بينما كانت تطير في غابة ساحرة، ظهر أمامها فجأة قفص كبير فخم. كان القفص مزينًا بأبهى الزخارف وأجمل الألوان والورود الفاتنة. انبهرت العصفورة بجمال القفص وروائحه العطرة التي ملأت المكان. توقفت العصفورة لتتأمله، ثم سرعان ما استأنفت تحليقها بحرية وسعادة.
بداية الحكاية
هنا تبدأ القصة الحقيقية. سمعت العصفورة همسا يقول: “هذا القفص مُعدٌ خصيصًا لكِ، وعليكِ الدخول إليه”. تفاجأت العصفورة بما سمعت، وبدأت تفكر مليًا في الأمر. لكنها رفضت بشدة، وفضلت أن تبقى حرة طليقة بدلًا من أن تُحبس. لكن الإصرار عليها كان شديدًا، والضغط عليها كان من كل جانب. أقنعوها بأن هذا أمر طبيعي لا مفر منه، وأن لكل عصفورة قفصًا مماثلًا يجب أن تدخله بكل فخر وسرور.
في البداية أصرت العصفورة على الرفض، لكن مشيئة الله كانت غير ذلك، ودخلت القفص رغمًا عنها. ياليتها لم تفعل! لقد وقعت في شرك كبير. كان مظهر القفص الخارجي متناقضًا تمامًا مع ما بداخله. حاولت الخروج بسرعة، لكن الباب أُغلق بإحكام. بدأت العصفورة تبكي وتذرف الدموع، أملًا في أن يشفق عليها أحد ويحررها. بكت حتى جفت دموعها، ولكن لا مجيب. قضت العصفورة في الأسر وقتًا طويلًا.
فكرت العصفورة في الهروب مرات عديدة، لكنها كانت تتردد دائمًا خوفًا على فراخها الصغيرة التي كانت تعيش معها في القفص. كانت تشفق عليهما كثيرًا، وتعلم أنها لن تستطيع فراقهما. حنانها عليهما كان يمنعها من تركهما وحيدين في القفص. وكان الهروب بهما من أصعب الأمور التي تواجهها، لذا كانت تضحي بنفسها من أجلهما. عاشت العصفورة مأساة لم تعهدها طيلة حياتها. كانت الأشواك تحيط بها من كل جانب، والنيران تشتعل تارة وتهدأ تارة أخرى. حاولت التأقلم مع وضعها قدر الإمكان. حاولت أن تسعد نفسها بنفسها، لكنها فشلت. تفاءلت، تأملت، لكن دون جدوى. صبرت، حتى ضاقت ذرعًا.
لم تعد العصفورة تهنأ بحياة ولا بشباب ولا بطعام. حتى النوم جافاها. كانت تنام وقلبها يقظ، خوفًا على نفسها وعلى فراخها. صارت تغني بلا ألحان، تغني حزنًا على حالها. غنت حتى بح صوتها.
مواجهة العصفورة لحياة جديدة
عندما أشرقت شمس يوم جديد، تحطمت آمال العصفورة، وقُتلت أحلامها، وتدمرت نفسيتها. لكنها قررت الخروج وتحدي الصعاب التي ستواجهها. استعانت بالله وبدأت تخطط بجدية لمغادرة القفص مع فراخها الصغار. عزمت وتوكلت على الله.
واجهت العصفورة آلاف المصاعب حتى تعدت الآلام طاقتها، وفاقت الجراح قدرة تحملها. ضاق صدرها وشحب وجهها وضعف جسدها وتكسر قلبها واشتدت أزمتها، حتى فرجت. نعم، لقد فرجت في هذا الشهر الجميل من أيام الصيف. عادت حرة طليقة، عادت أبية سعيدة.
عادت البسمة إلى وجهها، عادت تحمد الله أن وفقها للخير وعليه أعانها. عادت تغرد بألحانها، عادت تغني كالبلبلين بأجمل من سابق ألحانها. عادت تستبشر بمستقبل زاهر، داعية ربها أن تبقى حياتها هادئة.
قال تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].
وفي الحديث الشريف: “لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً” رواه الترمذي.