فهرس المحتويات
وقائع الهجرة النبوية الشريفة
تعتبر الهجرة النبوية حدثاً فاصلاً في تاريخ الإسلام، إذ أنها شكلت بداية لمرحلة جديدة من الدعوة الإسلامية. وتتلخص وقائع الهجرة في سلسلة من الأحداث المتلاحقة التي بدأت بالإذن الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة إلى يثرب، والتي تعرف اليوم بالمدينة المنورة.
انطلاق مسيرة الهجرة إلى يثرب
عندما أذن الله تعالى لنبيه بالهجرة، توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه في وقت متأخر من الليل وأخبره بأمر الهجرة. فأظهر أبو بكر فرحاً شديداً بهذا الشرف العظيم وعرض على الفور مرافقته في هذه الرحلة المباركة، فوافق النبي صلى الله عليه وسلم. وبدأ أبو بكر بتجهيز راحلتين استعداداً للهجرة، كما استأجرا خبيراً بالطرق الصحراوية وهو عبد الله بن أريقط، على الرغم من أنه كان غير مسلم إلا أنه كان موثوقاً به وأميناً.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة برفقة أبي بكر، في الوقت الذي كان المشركون يتربصون به ويحاصرون بيته للإيقاع به. ولكن الله حفظ نبيه، حيث طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينام في فراشه مرتدياً عباءته، ليظن المشركون أنه النبي صلى الله عليه وسلم. فكان علي رضي الله عنه أول فدائي في الإسلام، وقد طمأنه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لن يصيبه أي مكروه.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته وهو يتلو قول الله تعالى:
(وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)
[يس: 9].
فأعمى الله أبصارهم عنه، والتقى النبي صلى الله عليه وسلم بأبي بكر رضي الله عنه وتوجها معاً نحو غار ثور.
مكوث النبي في غار ثور
دخل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه غار ثور للاختباء فيه لعدة أيام، حتى تهدأ مطاردة قريش لهما. مكثا في الغار ثلاثة أيام، وتكفلت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بإيصال الطعام إليهما، بينما كان عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما يتجسس على أخبار قريش وينقلها إليهما. وكان عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر، يقوم بمسح آثار أقدام عبد الله بغنمه حتى لا ينكشف أمره.
بالرغم من ذلك، لم تتوقف قريش عن البحث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعرضت مكافأة كبيرة قدرها مائة ناقة لمن يأتي بهما. ووصل الأمر إلى أن بعض رجال قريش اقتربوا جداً من غار ثور حتى سمع النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أصواتهم. وفي تلك اللحظة، خاف أبو بكر خوفاً شديداً على النبي صلى الله عليه وسلم وقال له:
(لو أنَّ أحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا)
.
فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بثقة ويقين:
(ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا)
.
حكاية أم معبد
في طريق هجرته، مر النبي صلى الله عليه وسلم بخيمة امرأة تدعى أم معبد (عاتكة بنت خالد). كانت أم معبد تمتلك شاة هزيلة لا تدر لبناً، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها وسمى الله، ثم حلبها فشرب هو وأبو بكر رضي الله عنه من لبنها. واستمرت بركة اللبن في الشاة حتى بعد رحيلهما. عندما عاد زوجها أبو معبد ورأى اللبن، سأل زوجته عن الأمر، فأخبرته أنها رأت رجلاً وضَّاءً حسن الخلق، ووصفت له صفات النبي صلى الله عليه وسلم بدقة. فعرف أبو معبد أنه هو الشخص الذي تبحث عنه قريش، وبعد ذلك أسلمت أم معبد وزوجها وهاجرا.
وقد وصفت أم معبد النبي صلى الله عليه وسلم بالمبارك، والتقت به لاحقاً في المدينة وأهدته لبناً ومتاعاً من متاع العرب.
قصة سراقة بن مالك
بعد مغادرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر لخيمة أم معبد، تبعهما سراقة بن مالك طمعاً في الحصول على المكافأة التي وضعتها قريش. جهز سراقة نفسه وانطلق يبحث عنهما، وعندما اقترب منهما سقط عن فرسه. ثم استقسم بالأزلام، وهي سهام تستخدم في الاستخارة، فظهر له ما يكره. أعاد الاستقسام ثلاث مرات، وفي كل مرة تظهر النتيجة نفسها.
عندها قرر سراقة عدم ملاحقة النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب منه الأمان ودعا له. ووعده النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيرتدي سواري كسرى يوماً ما إن كتم أمره. فوافق سراقة على ذلك. وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما فتح المسلمون بلاد فارس، جيء بسواري كسرى وأعطيت لسراقة وفاءً بوعد النبي صلى الله عليه وسلم.
الوصول إلى مشارف المدينة المنورة
وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب (المدينة المنورة) برفقة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد رحلة استغرقت ثمانية أيام، وكان من المفترض أن تستغرق أحد عشر يوماً. دخلا المدينة في الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الثالثة عشر للبعثة. كانت أخبار هجرته قد وصلت إلى أهل يثرب، وكانوا ينتظرون وصوله بفارغ الصبر. خرجوا إلى منطقة قباء لاستقباله، ومكث النبي صلى الله عليه وسلم في قباء أربعة عشر يوماً، وأسس فيها أول مسجد للمسلمين وهو مسجد قباء، الذي أشار إليه الله تعالى في القرآن الكريم:
(لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)
[التوبة: 108].
عندما بدأ التنازع بين أهل المدينة على استضافة النبي صلى الله عليه وسلم، قام بحل هذا الخلاف بحكمة، حيث ترك الأمر لناقته لتبرك حيث شاءت، فبركت عند بيت أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
دوافع الهجرة إلى يثرب
اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم قرار الهجرة بسبب ما لاقاه والمسلمون المستضعفون من أذى واضطهاد من قريش. كانت الهجرة إلى يثرب فرصة لتأسيس دولة إسلامية قوية، ونشر الدين الإسلامي وبيان مراد الله تعالى من خلق الإنسان. لم يكن ذلك ممكناً في مكة بسبب الترهيب الذي مارسه المشركون على كل من أراد الإصلاح والدعوة. فأنعم الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم بأهل المدينة الذين نصروه وآزروه ونشروا معه رسالة الحق.
تم اختيار المدينة المنورة لتكون وجهة الهجرة لعدة أسباب، منها:
- اشتهار أهل يثرب بالكرم والجود وحسن الضيافة.
- تمتع يثرب بحماية طبيعية، حيث كانت محاطة بأشجار النخيل والمزارع الكثيفة من جميع الجهات باستثناء جهة واحدة تم تحصينها لاحقاً عن طريق الخندق.
عِبر وفوائد من الهجرة
تتضمن الهجرة النبوية الشريفة دروساً وعِبراً عظيمة، منها:
- إبراز نماذج عظيمة في الكفاح والتضحية من أجل الإسلام ونشر الدعوة، مثل علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق رضي الله عنهما.
- اعتبار الهجرة بداية للتاريخ الإسلامي، لأنها الحدث الذي ساهم في اعتزاز الإسلام ورفعته.
- إظهار أن الباطل مهما طال وعلا مصيره إلى الزوال.
- انتشار الإسلام بعد الهجرة النبوية ووصوله إلى العديد من القبائل العربية.
- إظهار فضل أهل العلم والخير وأنهم من أسباب البركة والنجاة من الفتن.
- تجسيد بعض غير المسلمين للأخلاق الحميدة رغم كفرهم.
- وجوب الأخذ بالأسباب والسعي لتحقيق الأهداف مع التوكل على الله.
- فضل إنفاق المسلم من ماله الخاص لنصرة الإسلام ونشر الدعوة.
- أهمية المساجد في الإسلام والتشجيع على بنائها، حيث كان بناء المسجد أول عمل قام به النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.
المراجع
- أبومحمد النجار، القول المبين في سيرة سيد المرسلين، لبنان: دار الندوة، صفحة 174-176.
- أبوعطية سالم، شرح الأربعين النووية، صفحة 11-12، جزء 2.
- سورة يس، آية: 9.
- عبدالرحمن الحجي (1420)، السيرة النبوية منهجية دراستها واستعراض أحداثها (الطبعة الاولى)، سوريا: دار إبن كثير، صفحة 307.
- رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي بكر الصديق، الصفحة أو الرقم: 3653، صحيح.
- محمد هيكل، حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، صفحة 142-143.
- علاء مغلطاي (1996)، الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخفا (الطبعة الاولى)، لبنان: الدار الشامية، صفحة 158-162.
- شرف الدين الطيبي (2013)، فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (الطبعة الاولى)، الإمارات: جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، صفحة 708-709، جزء 6.
- أبو بكر البيهقي (1405)، دلائل النبوة (الطبعة الاولى)، لبنان: دار الكتب العلمية، صفحة 491-492، جزء 2.
- محمد الددو الشنقيطي (2007-01-16 )،”تفسير: {وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق} “،www.ar.islamway.net، اطّلع عليه بتاريخ 2021-04-23 .
- محمد الزرقاني (1996)، شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (الطبعة الاولى)، لبنان: دار الكتب العلمية، صفحة 143-144، جزء 2.
- محمد عبد الوهاب (1418)، مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، السعودية: وزارة الشؤون الاسلامية والاوقاف والدعوة والارشاد، صفحة 130-131.
- محمد أبو شبهة (1427)، السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة (الطبعة الثامنة)، سوريا: دار القلم، صفحة 491-495، جزء 1.
- سورة التوبة، آية: 108.
- محمد القادياني (1240)، حياة محمد ورسالته (الطبعة الثانية)، لبنان: دار العلم للملايين، صفحة 124-125.
- بحرق اليمني (1419)، حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النبي المختار (الطبعة الاولى)، السعودية: دار المنهاج للنشر والتوزيع، صفحة 213-215.
- عطية سالم، دروس الهجرة، صفحة 2، جزء 2.
- ابن كثير (1997)، البداية والنهاية (الطبعة الاولى)، مصر: دار هجر للطباعة والنشر، صفحة 437، جزء 4.
- محمد علي، مجلة المقتبس، صفحة 68-70، جزء 60.
- أبو الحسن الندوي (1425)، السيرة النبوية (الطبعة الثانية عشر)، سوريا: دار إبن كثير، صفحة 229.
- مصطفى السباعي (1997)، هكذا علمتني الحياة، لبنان: المكتب الإسلامي، صفحة 166.
- أحمد زواوي، شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مصر: دار القمة، صفحة 350-352، جزء 2.