مقدمة
القرآن الكريم هو كلام الله المعجز، والذي يتميز ببلاغته وفصاحته. من بين الجوانب التي تستحق التأمل والتدبر في القرآن الكريم هي دقة اختيار الألفاظ والمعاني التي تحملها. إحدى هذه المسائل هي التمييز بين كلمتي “السنة” و”العام”، وهل هما مترادفتان أم تحملان دلالات مختلفة؟ هذا ما سنتناوله في هذا المقال.
تفسيرات العلماء للكلمتين
تعددت آراء العلماء والمفسرين في تحديد الفرق بين كلمتي “السنة” و”العام” في القرآن الكريم. فيما يلي عرض لأهم هذه الآراء:
-
الرأي الأول: الترادف البلاغي
يرى بعض العلماء أن كلمتي “السنة” و”العام” تحملان نفس المعنى، وأن استخدام كلمتين مختلفتين إنما هو من باب البلاغة القرآنية، وإثراء النص القرآني بألفاظ متنوعة لتجنب التكرار. من أبرز القائلين بهذا الرأي الإمام الزمخشري وصاحب تفسير التحرير والتنوير.
-
الرأي الثاني: الاختلاف في الدلالة
يذهب فريق آخر من العلماء إلى أن هناك فرقًا دقيقًا في المعنى بين “السنة” و”العام”. فكلمة “السنة” تدل على الشدة والقحط، بينما كلمة “العام” تدل على الرخاء والخصب. يستدلون على ذلك بآيات قرآنية متعددة، منها قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾.
في هذه الآية، يُستخدم لفظ “السنة” للإشارة إلى سنوات الدعوة التي قضاها نوح -عليه السلام- في مواجهة التكذيب والأذى، بينما يُستخدم لفظ “العام” للدلالة على الفترة التي تلت نجاة نوح ومن آمن معه. ويستشهدون كذلك بما قاله الراغب الأصفهاني: “الْغَالِبُ اسْتِعْمَالُ السَّنَةِ فِي الْحَوْلِ الَّذِي فِيهِ الشِّدَّةُ وَالْجَدْبُ وَلِهَذَا يُعَبَّرُ عَنِ الْجَدْبِ بِالسَّنَةِ وَالْعَامُ مَا فِيهِ الرَّخَاءُ وَالْخِصْبُ”.
كما أن هناك أمثلة عديدة في القرآن الكريم لاستخدام لفظ “العام” في سياقات تدل على الخير والبركة، مثل قوله تعالى في سورة يوسف: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا﴾.
-
الرأي الثالث: دلالة العوم
يرى بعض العلماء أن إطلاق لفظ “العام” على السنة يعود إلى عوم الشمس في السماء، أي دورانها وحركتها. يستدلون على ذلك بقوله تعالى: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾.
جمالية البيان القرآني
يتميز القرآن الكريم ببلاغة فائقة، حيث يحتوي على عدد كبير من الألفاظ والكلمات التي تحمل معاني عميقة وفريدة. وقد عجز العرب، وهم أهل الفصاحة والبلاغة، عن الإتيان بكلمة واحدة تضاهي كلمات القرآن في دقتها وجمالها. وقد تحدى الله تعالى الإنس والجن أن يأتوا بمثله، فقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
إن دراسة القرآن الكريم تعتبر من أجلّ العلوم وأعظمها، ولا تقتصر على جانب واحد من جوانب التفسير، بل تتناول جوانب لغوية وبلاغية وأحكامًا وتشريعات.
خصائص اللفظ القرآني
يتميز اللفظ القرآني بعدة خصائص تميزه عن غيره من الألفاظ، ومن أبرز هذه الخصائص:
- عدم الترادف التام: كل كلمة في القرآن الكريم تحمل معنى فريدًا ومختلفًا عن غيرها، مما يجعله متميزًا بسمو المعنى واتساقه وحسن بلاغة ألفاظه وفصاحتها.
- تنوع الدلالة: تختلف دلالة ألفاظ القرآن الكريم من موضع لآخر، وتتصف بصفات مختلفة. ففي مواضع الترهيب والتخويف تتصف بشدة اللهجة والإنذار والتهويل، مثل قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾. وفي مواضع الترغيب والتحبيب يغلب عليها طابع اللطف والحسن، مثل قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾. وفي مواضع الأحكام والتشريع تتصف بالاتزان والتماسك والوضوح، مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
- الإعجاز: يتصف الأسلوب القرآني بالإعجاز، فهو كلام الله المتكامل المترابط في ألفاظه ومعانيه، الخالي من الاضطراب والركاكة، الموجز، الملائم لكل زمان ومكان، بأسلوب يعكس عمق المعاني ودقة صياغتها وروعة تعبيرها.
- سمو اللفظ: يتميز اللفظ القرآني في اختيار أدق التعابير والمفردات في مختلف الموضوعات، واتساع الدلالة التي تسمح بمخاطبة كل بأسلوب مفهوم مؤثر، يعجز الكل عن الإتيان بمثله، قال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾.
خلاصة
في الختام، يمكن القول أن مسألة الفرق بين “السنة” و”العام” في القرآن الكريم هي مسألة خلافية بين العلماء، ولكنها تكشف عن جانب من جوانب البلاغة والإعجاز في القرآن الكريم. سواء كان اللفظان مترادفين أو يحملان دلالات مختلفة، فإن القرآن الكريم يظل كلام الله المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.