مقدمة: الإسلام منبع الحكمة
إن المتأمل في تعاليم الإسلام السمحة يدرك بجلاء أن كل ما جاء به هو الحق بعينه، وهو الأمثل والأصلح للبشرية جمعاء، سواء كانوا إنسًا أو جنًا، أحياءً أو أمواتًا، صغارًا أو كبارًا، ذكورًا أو إناثًا. لقد أخرجهم الإسلام من ظلمات الجهل إلى نور الهداية، ومن جور الظلم إلى عدل الإنصاف، ومن التيه والضياع إلى سبيل الرشاد.
وتتجلى حكمة الإسلام في أحكامه المتوافقة مع الحقائق والمنطق والفطرة السليمة، حيث حرم كل ما يضر بالإنسان وجسده ويؤدي إلى الأمراض والأسقام، مثل الخمر ولحم الخنزير والتدخين والمخدرات. كما حرم كل ما يضر بالأموال والممتلكات ويلحق الضرر باقتصاد البلاد، كالربا والاحتكار والغش والتدليس. ونهى عن التعرض للآخرين بالأذى أو الظلم الذي يؤدي إلى العداوة بين الناس، مثل الظلم وأكل أموال الناس بالباطل وانتهاك الأعراض. وأخيرًا، حرم كل ما يؤدي بالمرء إلى الهلاك في الآخرة إذا عصى أمر خالقه ولم يطعه فيما ألزمه به.
وترتبط هذه الأمور ارتباطًا وثيقًا بجميع جوانب حياة المسلم اليومية، من علاقات اجتماعية ومعاملات مالية وعلاقات دولية وعلاقة المرء بربه. فالبشر مفطورون على التدين، وكل إنسان على وجه الأرض يحتاج بطبيعته إلى إله يعبده ويلجأ إليه في وقت الشدة، ويطلب منه ما يهمه، ويشكو إليه ما يشغله.
مقتطفات من الحكم والأقوال الإسلامية
تواترت الأقوال والحكم عن الصحابة والتابعين والفقهاء والعلماء عبر العصور، فضلاً عن الفيض الغزير من الحكمة المتضمنة في أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وسلوكياته. ورغم أن هذه الأقوال والأفعال ليست حِكمًا بالمعنى الاصطلاحي، إلا أنها وحي من الله للنبي، وتخضع للنصوص والأحاديث النبوية الصحيحة، تمامًا كالقرآن الكريم. فالأصل في المسلم هو التسليم بها وتطبيقها كما وردت، لأنها منقولة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، مصداقًا لقول الله تعالى:
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4].
وفيما يلي بعض الأقوال والحكم المنسوبة إلى بعض الصحابة والتابعين والعلماء والفقهاء.
أقوال وحكم من الصحابة والتابعين
خيرة الأجيال وأفضلهم، هم من نهلوا من معين النبوة الصافي، ورافقوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعلموا منه مباشرة. أقوالهم وحكمهم نبراس لنا في دروب الحياة.
من روائع أقوال أبي بكر الصديق رضي الله عنه
كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- من أوائل من دخلوا الإسلام، وأقرب الصحابة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأكثرهم حكمة وتواضعًا، وأشدهم حرصًا على دين الله وإعلاء كلمته. وشهدت له بذلك مواقف كثيرة، منها موقفه الشجاع في قتال المرتدين ومانعي الزكاة. وقد رافق النبي -صلى الله عليه وسلم- في العديد من المواقف والأحداث الهامة، وعلى رأسها رحلة الهجرة. ومما ورد من أقواله وحكمه رضي الله عنه:
عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- أنه أتى إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في مرضه الذي مات فيه؛ فبكى عند رأسه ثم قال: (يا خليفة رسول الله؛ أوصني. فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن الله تبارك وتعالى فاتح عليكم الدنيا، فلا تأخذن منها إلا بلاغًا، واعلم أن من صلى صلاة الصبح؛ فهو في ذمة الله؛ فلا تخفرن الله عز وجل في ذمته فيكبك الله على وجهك في النار).
عن ثابت البناني؛ أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان كثيرًا يتمثل بهذا البيت:
لا تَزَلْ تَنْعِي حَبِيبًا أَبَدًا حَتَّى تَكُونَهُوَ لَقَدْ يَرْجُو الْفَتَى الرَّجَاءَ وَالْمَوْتُ دُونهُ
عن ابن عيينة؛ قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا عزى رجلاً؛ قال: (ليس مع العزاء مصيبة، ولا مع الجزع فائدة، الموت أهون ما قبله وأشد ما بعده، اذكروا فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم تصغر مصيبتكم، وأعظم الله أجوركم).
وقيل إنه قال يومًا لأحد أمرائه: (إذا سرت فلا تضيق على نفسك، ولا على أصحابك في مسيرك، ولا تغضب على قومك ولا على أصحابك.. وإذا نصرتم على عدوكم فلا تقتلوا ولدًا ولا شيخًا ولا امرأة ولا طفلاً، ولا تعقروا بهيمةً إلا للمأكول، ولا تغدروا إذا عاهدتم، ولا تنقضوا إذا صالحتم، وستمرون على قومٍ في الصوامع رهباناً، فدعوهم ولا تهدموا صوامعهم).
من مأثورات الحسن البصري رحمه الله
الإمام الحسن البصري، أحد كبار التابعين، كان فقيهًا تقيًا ورعًا زاهدًا، وقد اشتهر في عصره حتى بلغ صيته الآفاق. كان الناس يقصدون مجلسه من مختلف البلدان، وكان يوصف بالحكمة، فلا ينطق إلا بالحكم والمواعظ، ولا يتصرف إلا بعين العقل والصواب. ومن بين حكمه الكثيرة:
يقول الإمام الحسن البصري -رحمه الله-: (إن هذا الدين قويٌّ، وإن الحق ثقيل، وإن الإنسان ضعيف، فليأخذ أحدكم ما يطيق؛ فإن العبد إذا كلَّف نفسَه من العمل فوق طاقتها، خافَ عليها السآمة والتَّرْكَ).
وقيل إنه كان يقول: المرض زكاة البدن، كما أن الصدقة زكاة المال، فكلُّ جِسمٍ لا يَشتَكي كمثل مالٍ لا يُزكَّى.
ومن أقواله كذلك: أفضل العمل الفكرة والورع، فمن كانت حياته كذلك نجا، وإلا فليحتسب حياتَه.
ومن أقواله: الفكرة مرآةٌ تُريك حسنتك من سيئتك، ومن اعتمد عليها أفلح، ومن أغفلها افتضَح.
واشتهر عنه كذلك قوله: احذر ثلاثةً، لا تمكِّن الشيطانَ فيها من نفسك: لا تخلُونَّ بامرأة ولو قلت: أعُلِّمها القرآن، ولا تدخل على السلطان، ولو قلت: آمره بالمعروف وأنهاه عن المنكر، ولا تجلس إلى صاحب بدعة؛ فإنه يُمرِضُ قلبك، ويُفسِدُ عليك دينَك.
وكان يقول: تفقَّد الحلاوة في ثلاثة: في الصلاة، والقراءة، والذكر، فإن وجدت ذلك فامضِ وأبشِر، وإلا فاعلم أن بابك مغلق، فعَالِجْ فتحَه.
من درر أقوال أبي حنيفة النعمان
كان الإمام أبو حنيفة النعمان من أفقه أهل عصره والعصور اللاحقة، وكان مُتبحّرًا في شتى العلوم، حتى إنه درس جميع العلوم الشرعية وبرع فيها حتى استقر على علم الفقه، وكان فقهه أول مذهب فقهي معتمد بين المذاهب الفقهية الأربعة، وقد ذاع وانتشر مذهبه في أصقاع الأرض لقوة دليله ونظرته الشمولية للواقع والمستقبل. ومما جاء في حكم وأقوال الإمام أبي حنيفة رحمه الله:
كان الإمام أبو حنيفة ينهى تلاميذه عن التبحُّر والمناظرة في علم الكلام -العقيدة والفلسفة- مع أنه كان من أهل المناظرات الشرسة والمشهود لها حتى يومنا هذا، ومرَّة رأى ابنه الأكبر حمّاد يُناظر في علم الكلام فنهاه عن ذلك، فقال له ابنه حمّاد: كنتَ تناظر فيه والآن تنهانا عنه؟ فقال له أبوه -أبو حنيفة- رحمه الله: (كنا نُناظر وكأن على رؤوسنا الطير مخافة أن يَزلَّ صاحبنا، وأنتم تُناظرون وتُريدون زلَّة صاحبكم، ومن أراد أن يَزلَّ صاحبه فقد أراد أن يكفر صاحبه؛ فقد كفر قبل أن يكفر صاحبه).
من أقواله الرائعة كذلك قوله: (مَثَلُ من يطلب الحديث ولا يتفقه؛ كَمَثَل الصيدلاني، يجمع الأدوية ولا يدري لأي داءٍ هي حتى يجيء الطبيب، هكذا طالب الحديث؛ لا يعرف وجه حديثه حتى يجيء الفقيه).
المراجع
- سورة النجم، آية: 3-4.
- “من أقوال السلف أقوال أبي بكر الصديق رضي الله عنه”، موقع الإسلام الدعوي والإرشادي، 14-9-1431هـ.
- أحمد عبدالوهاب الشرقاوي (6/9/2014)، “من أقوال الحسن البصري في الحكم والمواعظ”، شبكة الألوكة.
- الإمام محمد أبو زهرة (1987)، تاريخ المذاهب الإسلامية، قبرص: دار الحديث، صفحة 351-355.