مقدمة
نتناول في هذه المقالة دراسة متعمقة لنص شعري للشاعر محمد محمود العكشية، وهي قصيدة بعنوان “شقيق التل غزة، فلسطين”. يهدف هذا التحليل إلى استكشاف الأبعاد الفلسفية العميقة التي تتضمنها القصيدة، وتسليط الضوء على الرموز والدلالات التي استخدمها الشاعر للتعبير عن رؤيته.
أرضية القصيدة ومفاهيمها الأساسية
تدور القصيدة حول مفاهيم أساسية مثل الوطن، الأرض، الذاكرة، والتاريخ. يعتمد الشاعر على رمزية “التل” كرمز للأرض الفلسطينية المتجذرة في التاريخ. كما يبرز دور الأجداد، خاصة الجدة، كحارس للذاكرة والهوية الوطنية.
يقول الشاعر:
أنا في التلِّ قبلَ الخلقِ كلِّهِمُ.. وكان التلُّ منفرداً بلا صحبٍ ولا إخوانْ
وأمُّ التلِّ والدتي وأمُّ التلِّ عذراءٌ وهذا التلُّ أصغرُنا وكان ينامُ فوق يديَّ مرتعشاً ويخشى من هزيمِ الرعدِ والأسطورةِ السوداءِ والغيلانْ
ويخبرُني بأنَّ التلَّ ثديُ الأرضِ يعرفُ ما تخبِّئُهُ وأنَّ الأرضَ تخبرُهُ بأنَّ السفحَ مسكينٌ.. سيُقتل فوقَهُ ولدي.. ويُصلبُ فوقَه سَربٌ من العُقبانْ
هنالك جدتي صلَّتْ.. ولم تركعْ ولم تسجُدْ وكانَ اللهُ ألهمَها تصلي مثلَ زيتونةْ وتسجُدُ قطرةً قطرةْ.. كسَربِ غمامْ.
هنالك جدتي صنَعَتْ.. شعاعَ الشمسِ في كهفٍ وغنَّتْ دون شفتينِ.. وحاكت من جدائلِها لنا شُطآنْ.. ومن وديانِ كفَّيْها رَمَت في أرضنا وديانْ
وصاغت شِعرها الوطنيَّ حينَ التلُّ ثارَ وصارَ جبلياً وبعدَ الثورةِ العظمى وفوقَ التلِّ بثَّ اللهُ روحَ اللهِ في الدنيا.. فكانَ الكونُ واستلقى به الإنسانْ!
هنالك جدتي هبَطَتْ.. تغطي جسمَها الشرقيَّ كوفية وتحملُ بضعَ شهداءٍ ومئذنةً وأحجاراً سماوية وترسلُ صُرةً من ذاكَ للجيرانْ
وتصنعُ من مزيجِ الصمتِ والجبروتِ قُبَّتَنا.. وتخبرُ من أقاموا حولَ قريتِنا.. بأنَّ القُبَّةَ السوداءَ بعضُ اللهِ في أرضي وأنَّ الأرضَ مُلكُ اللهِ أورَثَها لهذا التلِّ والأحفادِ مَن حملوا ملامحَنا فكيف تنامُ يا ابن الليلِ فوقَ التلِّ دونَ ملامحِ التلِّ؟
وكيف تنامُ قربَ القُبَّةِ السوداءْ.. وكنتَ فتحتَ قبلَ الكلِّ ما صرَّتهُ جدتُنا وكنتَ أكلتَ قبلَ الكلِّ نورَ الجدةِ الأولْ.. وهذا النورُ يا ابنَ الجهلِ يُستنشقْ.. ولا يُؤكلْ..
وكيف أتيتَ فوقَ البحرِ والأمواجُ تحرُسُنا؟ أخانَتْ عهدَنا البحريَّ أم فقدَتْ ملوحَتَها.. فلم تشعرْ بِحَرِّ الجُرحِ حين بصدرِها أوغلْ.
وكيف ترابُنا الخرزيُّ أوصلَ نعلَكَ الغازي.. ولم يخجلْ؟ وكيف نبشتَ قبر الجدة الأولى.. ولم تُقْتلْ؟! وكيف حصانُنا العربيُّ بيعَ كخمرِكَ الحمرا ولم يصهلْ؟!
وكيف تقولُ إنك صاحبُ التلِّ؟ ولم تشهدْ طفولتَهُ.. ولم تبصرْ بلوغَ التلِّ سنَّ الرعشة الأولى.. ليغدوَ بعدها جبلاً.. وكان بهذه الرعشاتِ يَفزعُ ثم يتكوَّرْ.. كمثلِ تحدُّبِ المِنجلْ
فأحضُنُهُ وأُخبرُه بأنَّ حقائقَ الأجسادِ لا تُخجِلْ.. فلملمْ يا دعيَّ التلِّ ما تروي عن الدنيا فإنكَ تجهلُ الدنيا.. وأعرفُ ضِعفَ ما تجهلْ.
تأملات فلسفية في القصيدة
تحمل القصيدة أبعادًا فلسفية عميقة تتجلى في عدة جوانب. أولاً، هناك التأصيل الوطني الذي يعبر عنه الشاعر من خلال ربط هويته بالتل والأرض. يعتبر التل رمزًا للوجود الفلسطيني الضارب في القدم، وهوية لا يمكن محوها. ثانياً، تتناول القصيدة البعد النفسي، حيث يعكس الشاعر مشاعر القلق والخوف على مصير الأرض والشعب. ثالثاً، تقدم القصيدة تأريخاً للمكان والزمان، حيث تستخدم مصطلحات مثل “الجدة” و “القدس” و”التل” للإشارة إلى مراحل تاريخية وثقافية مهمة.
تتضمن القصيدة تساؤلات وجودية حول الهوية والانتماء والصراع بين الحق والباطل. يتساءل الشاعر عن كيفية السماح للغزاة بالدخول إلى الأرض المقدسة، وكيف يمكن نكران تاريخ الأجداد. هذه التساؤلات تعكس صراعاً فلسفياً عميقاً بين الذاكرة والنسيان، وبين الأصالة والتبعية.
الصور الجمالية في القصيدة
تزخر القصيدة بالصور الجمالية التي تضفي عليها رونقاً خاصاً. يستخدم الشاعر التشبيهات والاستعارات بشكل مكثف للتعبير عن أفكاره ومشاعره. على سبيل المثال، تشبيه الأمواج بالحراس يعكس قوة الطبيعة ودورها في حماية الأرض. كما أن تصوير الجدة كحارسة للذاكرة والهوية الوطنية يضفي عليها هالة من القداسة والاحترام.
الصور الشعرية في القصيدة ليست مجرد زخرفة لغوية، بل هي وسيلة للتعبير عن رؤية فلسفية عميقة. من خلال هذه الصور، يتمكن الشاعر من إيصال أفكاره ومشاعره بشكل مؤثر وجذاب.
خلاصة
تعتبر قصيدة “شقيق التل غزة، فلسطين” نصاً شعرياً ذا أبعاد فلسفية عميقة. تتناول القصيدة قضايا الهوية الوطنية، الذاكرة، والتاريخ، وتقدم رؤية فلسفية للصراع بين الحق والباطل. من خلال استخدام الصور الجمالية والرموز، يتمكن الشاعر من إيصال أفكاره ومشاعره بشكل مؤثر وجذاب، مما يجعل القصيدة عملاً فنياً يستحق الدراسة والتحليل.