فهرس المحتويات
مقدمة حول القصيدة
تعد قصيدة “هاج لي الشوق” للسان الدين بن الخطيب من الروائع الشعرية التي تجسد مشاعر الشوق والحنين إلى الأماكن المقدسة، وتمتزج فيها عناصر الوصف، والغزل، والمديح النبوي. تعتبر هذه القصيدة نموذجًا للإبداع الشعري الذي يعكس عمق التجربة الروحية والإنسانية للشاعر.
استكشاف مشهد البرق
يبدأ الشاعر قصيدته بوصفٍ بديعٍ للبرق، مستخدماً صورةً حسيةً قويةً تأسر القارئ. يربط الشاعر بين البرق وإثارة الذكريات والشوق، وكأنّ البرق هو الشرارة التي قدحت زناد الحنين. يقول:
تألّقَ نجْدِيّاً فأذْكَرَني نجْدا:::وهاجَ ليَالشّوْقَالمُبَرِّحَ والوَجْدا
وَميضٌ رأى بُرْدَ الغَمامَةِ مُغْفَلاً:::فمَدّ يَداً بالتِّبْرِ أعْلَمَتِ البُرْدات
تبسَّمَ في بحْرِيّةٍ قدْ تجهّمَتْ:::فَما بَذَلَتْ وصْلاً ولا ضَرَبَتْ وعْدا
وراوَدَ منْها فارِكاً قدْ تمنّعَتْ:::فأهْوى لَها نصْلاً وهدّدَها رعْدا
فأغْرى بها كفَّ الغِلابِ فأصْبَحَتْ:::ذَلولاً ولمْ تسْطِعْ لإمرَتِهِ رَدّافحُلَّتُها الحمْراءُ منْ شَفَقِ الضُّحى:::نَضاها وحَلَّ المُزْنُ منْ جِيدِها عِقْد
الكَ اللهُ منْ برْقٍ كأنّ وَميضَهُ:::يَدُ السّاهرِ المقْرورِ قد قدَحَتْ زَنْدا
تعلّمَ منْ سُكّانِهِ شيَمَ النّدى:::فغادَرَ أجْزاءَ الحِمى رَوْضَةً تنْدى
وتوّجَ منْ نُوّارِها قُنَنَ الرُّبى:::وختّمَ منْ أزْهارِها القُضُبَ المُلْدا
لَسُرْعانَ ما كانتْ مَناسِفَ للصِّبا:::فقدْ ضحِكَتْ زَهْراً وقد خجِلَتْ وَرْدا
بِلادٌ عهِدْنا في قَراراتِها الصِّبا:::يقِلُّ لِذاكَ العهْدِ أنْ يألَفَ العهْدا
إذا ما النّسيمُ أعْتَلَّ في عَرَصاتِها:::تَناولَ فيها البانَ والشّيحَ والرّنْدا
فكمْ في مَجاني وَرْدِها منْ علاقَةٍ:::إذا ما اسْتُثيرَتْ أرْضُها أنْبَتَتْ وجْدا
إذا اسْتَشْعَرَتْها النّفْسُ عاهَدَتِ الجَوى:::إذا التَمَحَتْها العيْنُ عاقَدَتِ السُّهْدا.
في هذه الأبيات، يصف الشاعر البرق بأنه كائن حي، يتفاعل مع الطبيعة، ويؤثر فيها، ويترك أثراً جميلاً في الأرض. هذا الوصف يعكس قدرة الشاعر على تصوير المشاهد الطبيعية بأسلوب فني رفيع.
تحليل الوصف العاطفي
بعد مشهد البرق، ينتقل الشاعر إلى التعبير عن مشاعره وعواطفه، مستخدماً لغةً رقيقةً تعكس عمق حبه وشوقه. يصف الشاعر العاشق بأنه أسير الحب، يحفظ العهد، ويعاني من لوعة الشوق. يقول:
ومنْ عاشِقٍ حُرٍّ إذا ما اسْتَمالَهُ:::حَديثُ الهَوى العُذْريِّ صيَّرَهُ عَبْدا
ومنْ ذابِلٍ يحْكي المُحبّينَ رِقّةً:::فيَثْني إذا ما هَبَّ عَرْفُ الصَّبا قَدّاوأنّسَ قَلْبي فهْوَ للعَهْدِ حافِظٌ:::وقَلّ على الأيّامِ مَنْ يحْفَظُ العَهْدا
صَبورٌ وإن لمْ تَبْقَ إلا ذُبالَةٌ:::إذا استَشْعَلَتْ مسْرى الصَّبا اشْتَعَلَتْ وَقْداخَفوقٌ إذا الشّوْقُ استَجاشَ كَثيبَةَ:::تَجوسُ دِيارَالصّبْرِكانَلها بَنْدا
وقدْ كُنْتُ جَلْداً قبْلَ أن تُذْهِبَ النّوى:::ذَمايَ وأنْ تسْتأصِل العظْمَ والجِلْدا
أأجْحَدُحقَّالحِبِّوالدّمعُ شاهِدٌ:::وقد وقَعَ التّسْجيلُ منْ بعْدِ ما أدّى
تَناثَرَ في إثْرِ الحُمولِ فَريدُهُ:::فللّهِ عيْناً مَنْ رأى الجوْهَرَ الفَرْداجرَى يَقَقاً في ملعَبِ الخدِّ أشْهَبا:::وأجْهَدَهُ ركْضُ الأسَى فجَرى ورْدا.
هذه الأبيات تعكس معاناة العاشق، وتصويره كشخص يذوب في الحب، ويحترق من أجله، ولا ينال إلا الألم والدموع. هذه الصورة تعبر عن عمق التجربة العاطفية للشاعر.
تصوير رحلة الشوق إلى الديار المقدسة
ينتقل الشاعر بعد ذلك إلى وصف رحلة الشوق إلى الديار المقدسة، مستخدماً صورةً حيةً للقافلة المسافرة، ومعبراً عن حزنه لعدم تمكنه من مرافقتها. يقول:
ومُرْتَحِلٍ أجْرَيْتُ دمْعي خلْفَهُ:::ليُرْجِعَهُ فاسْتَنّ في إثْرِهِ قَصْدا
وقلْتُ لقَلْبي طِرْ إلَيْهِ برُقْعَتي:::فكانَ حَماماً في المَسيرِ بِها هَدّاسرَقْتُ صُواعَ العَزْمِ يوْمَ فِراقِهِ:::فلَجَّ ولمْ يَرْقُبْ سُواعاً ولا وُدّاوكحّلْتُ جَفْني منْ غُبارِ طَريقِهِ:::فأعْقَبَها دَمْعاً وأوْرَثَها سُهْداليَ اللهُ كمْ أهْذي بنَجْدٍ وحاجِرٍ:::وأُكْني بدَعْدٍ في غَرامي أو سُعْدىوما هوَ إلا الشّوْقُ ثارَ كَمينُهُ:::فأذْهَلَ نَفْساً لمْ تبِنْ عنْدَهُ قَصْداوما بيَ إلا أنْ سَرى الرّكْبُ مَوْهِنا:::وأعْمَلَ في رَمْلِ الحِمى النصَّ والوَخْداوجاشَتْ جُيوشُ الصّبْرِ والبَيْنِ والأسَى:::لديَّ فكانَ الصّبْرُ أضْعفَها جُنْداورُمْتُ نُهوضاً واعْتَزَمْتُ موَدِّعا:::فصَدّنيَ المِقْدارُ عنْ وجْهَتي صَدّارَقيقٌ بدَتْ للمُشْتَرينَ عُيوبُهُ:::ولمْ تلْتَفِتْ دعْواهُ فاسْتوْجَبَ الرّدّاتخلّفَ منّي ركْبُ طَيْبَةَ عانِيا:::أمَا آنَ للعاني المُعَنّى بأنْ يُفْدَىمخَلَّفُ سِرْبٍ قد أُصيبَ جَناحُهُ:::وطِرْنَ فلَمْ يسْطِعْ مَراحاً ولا مَغْدىنَشَدْتُكَ يا رَكْبَ الحِجازِ تضاءَلَتْ:::لكَ الأرْضُ مهْما اسْتَعْرَضَ السَّهْبُ وامْتَدّاوجمَّ لكَ المرْعى وأذْعَنَتِ الصّوى:::ولمْ تَفْتَقِدْ ظِلاً ظَليلاً ولا وِرْداإذا أنْتَ شافَهْتَ الدِّيارَ بطَيْبَةٍ:::وجِئْتَ بها القبْرَ المُقَدَّسَ واللّحْداوآنَسْتَ نُوراً منْ جَنابِ محمّدٍ:::يُداوي القُلوبَ الغُلْبَ والأعْيُنَ الرُّمْدافنُبْ عنْ بَعيدِ الدّارِ في ذلكَ الحمى:::وأذْرِ بهِ دمْعاً وعفِّرْ بهِ خَدّاوقُلْ يا رَسولَ اللّهِ عبْدٌ تقاصَرَتْ:::خُطاهُ وأضْحى منْ أحبّتِهِ فرْداولمْ يسْتَطِعْ من بعْدِ ما بَعُدَ المَدى:::سِوى لوْعةٍ تعْتادُ أو مِدْحَةٍ تُهْدى
يعبر الشاعر هنا عن شدة تعلقه بالديار المقدسة، ويطلب من المسافرين إليها أن يذكروا اسمه عند قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأن يبكوا له، وأن يتمسحوا بتراب قبره المبارك. هذه الأبيات تجسد الشوق الروحي العميق للشاعر.
تحليل لوحة المديح النبوي
تختتم القصيدة بلوحة المديح النبوي، حيث يمتدح الشاعر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويصف مكانته الرفيعة، ودوره في هداية البشرية. يقول:
تَدارَكْهُ يا غوْثَ العِبادِ برحْمَةٍ:::فجودُكَ ما أجْدى وكفُّكَ ما أنْدى
أجارَ بكَ اللهُ العِبادَ منَ الرّدى:::وبوَّأهُمْ ظِلاً منَ الأمْنِ مُمْتَدّاحَمى دينُكَ الدّنْيا وأقْطَعَكَ الرِّضا:::وتوّجَكَ العُلْيا وألْبَسَكَ الحمْداوطهّرَ منْكَ القلْبَ لمّا اسْتخصّهُ:::فجَلَّلَهُ نوراً وأوْسَعَهُ رُشْدادَعاهُ فَما وَلّى هَداهُ فما غَوى:::سَقاهُ فما يَظْما جَلاهُ فَما يصْداتقدّمْتَ مُخْتاراً تأخّرْتَ مَبْعثاً:::فقَدْ شمَلَتْ علياؤُكَ القَبْلَ والبَعْداوعِلّةُ هَذا الكوْنِ أنْتَ وكلّما:::أعادَ فأنْتَ القصْدُ فيهِ وما أبْدىوهلْ هوَ إلا مَظْهَرٌ أنْتَ سِرُّهُ:::ليمْتازَ في الخَلْقِ المُكِبُّ منَ الأهْدىفمِنْ عالَمِ الأسْرارِ ذاتُكَ تجْتَلي:::ملامِحَ نورٍ لاحَ للطّوْرِ فانْهَدّاوفي عالَمِ الحِسِّ اغْتَدَيْتَ مُبَوّأ:::لتَشْفي مَنِ اسْتَشْفى وتَهْدي منِ اسْتَهْدىفما كنْتَ لوْلا أن تَبُثَّ هِدايَةَ:::مِنَ اللهِ مثْلَ الخلْقِ رسْماً ولا حَدّابِماذا عسى يُثْني عليْكَ مُقَصِّرٌ:::ولمْ يألُ فيكَ اللّهُ مدْحاً ولا حمْدابماذا عسى يُجزيكَ هاوٍ على شَفَى:::منَ النّارِ قدْ أسْكَنْتَهُ بعْدَها الخُلْداعليْكَ صلاةُ اللهِ يا خيْرَ مُرسَلٍ:::وأكْرَمَ هادٍ أوْضَحَالحَقّوالرُّشْداعليْكَ صلاةُ الله يا خيْرَ راحِمٍ:::وأشْفَقَ مَنْ يَثْني على رأفَةِ كَبْداعليْك صلاةُ اللهِ يا كاشِفَ العَمى:::وقد هبّ ليْلُ الشّكِّ وهْوَ قدِ ارْبَدّاإلى كمْ أُراني في البَطالَةِ كانِعاً:::وعُمْريَ قدْ ولّى ووِزْريَ قدْ عُدّاتقضّى زَماني في لعَلّ وفي عسى:::فلا عزْمَةٌ تمضي ولا لوْعَةٌ تهدأحُسامُ جَبانٍ كلّما شِيمَ نصْلُهُ:::تَراجَعَ بعْدَ العزْمِ والتَزَمَ الغِمْدا.
في هذه الأبيات، يصف الشاعر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأجل الصفات، ويستجير به، ويطلب منه الشفاعة. هذا المديح يعكس الحب العميق والتقدير الكبير الذي يكنه الشاعر للرسول الكريم.
خلاصة
تعتبر قصيدة “هاج لي الشوق” للسان الدين بن الخطيب من القصائد التي تجمع بين الوصف، والغزل، والمديح النبوي، وتعكس عمق التجربة الروحية والإنسانية للشاعر. القصيدة مليئة بالصور الحسية، واللغة الرقيقة، والتعبير الصادق عن المشاعر، مما يجعلها من الروائع الشعرية الخالدة.