دراسة في قصيدة “ردوا علي الصبا” للبارودي

دراسة تحليلية لقصيدة ‘ردوا علي الصبا’ للبارودي. تتناول الدراسة الجوانب الأدبية والفنية والإيقاعية في القصيدة، مع إبراز أهم الأفكار التي طرحها الشاعر.

نظرة عامة على القصيدة

عند التأمل في هذه القصيدة، يتضح أن الشاعر قد سار على نهج الشعراء القدامى في تنويع الأغراض الشعرية. ففي بداية القصيدة، نجد أنه يتطرق إلى الغزل والتشبيب، معبراً عن تمنيه أن يعود شاباً لكي يستمتع بالحب ويذوق حلاوته. ولكنه يدرك أن شبابه قد مضى وأيام صباه أصبحت مجرد ذكرى. وعلى الرغم من ذلك، فإن المحبوبة ما زالت معرضة عنه ولم تبدّل موقفها. يقول البارودي في هذا السياق:

رُدُّوا عَلَيَّ الصِّبَا مِنْ عَصْرِيَ الْخَالِي:::وَهَلْ يَعُودُ سَوَادُ اللُّمَّةِ الْبَالِي
مَاضٍ مِنَ الْعَيْشِ مَا لاحَتْ مَخَايِلُهُ:::فِي صَفْحَةِ الْفِكْرِ إِلا هَاجَ بَلْبَالِي
سَلَتْ قُلُوبٌ فَقَرَّتْ فِي مَضَاجِعِهَا:::بَعْدَ الْحَنِينِ وَقَلْبِي لَيْسَ بِالسَّالِي
لَمْ يَدْرِ مَنْ بَاتَ مَسْرُوراً بِلَذَّتِهِ:::أَنِّي بِنَارِ الأَسَى مِنْ هَجْرِهِ صَالِي
يَا غَاضِبِينَ عَلَيْنَا هَلْ إِلَى عِدَةٍ:::بِالْوَصْلِ يَوْمٌ أُنَاغِي فِيهِ إِقْبَالِي
غِبْتُمْ فَأَظْلَمَ يَوْمِي بَعْدَ فُرْقَتِكُمْ:::وَسَاءَ صُنْعُ اللَّيَالِي بَعْدَ إِجْمَالِي
قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُنِي مِنْكُمْ عَلَى ثِقَةٍ:::حَتَّى مُنِيتُ بِمَا لَمْ يَجْرِ فِي بَالِي
لَمْ أَجْنِ فِي الْحُبِّ ذَنْبَاً أَسْتَحِقُّ بِهِ:::عَتْبَاً وَلَكِنَّهَا تَحْرِيفُ أَقْوَالِي

يعبر الشاعر عن ذاته، مؤكداً أنه ليس كغيره من الناس، فهو شخص يرفض الغدر والخيانة، ولا يقبل الرشوة بالمال، بل هو عفيف النفس ويتمتع بالكرامة. وهو يقتدي بآبائه وأجداده في تبني الأخلاق الحميدة والسيرة الحسنة. إلا أنه يشعر بالعزلة والوحدة، لأن من يتحلون بهذه الصفات قليلون في هذا الزمان. كما يقول:

لا عَيْبَ فِيَّ سِوَى حُرِّيَّةٍ مَلَكَتْ:::أَعِنَّتِي عَنْ قَبُولِ الذُّلِّ بِالْمَالِ
تَبِعْتُ خُطَّةَ آبَائِي فَسِرْتُ بِهَا:::عَلَى وَتِيرَةِ آدَابٍ وَآسَالِ
فَمَا يَمُرُّ خَيَالُ الْغَدْرِ فِي خَلَدِي:::وَلا تَلُوحُ سِمَاتُ الشَّرِّ فِي خَالِي
قَلْبِي سَلِيمٌ وَنَفْسِي حُرَّةٌ وَيَدِي:::مَأْمُونَةٌ وَلِسَانِي غَيْرُ خَتَّالِ
لَكِنَّنِي فِي زَمَانٍ عِشْتُ مُغْتَرِبَاً:::فِي أَهْلِهِ حِينَ قَلَّتْ فِيهِ أَمْثَالِي

ويصف الشاعر معاناته مع المجتمع، والضغوط التي يتعرض لها لكي يصبح مثلهم ويتبع سلوكهم. إلا أنه يصر على التمسك بمبادئه وقيمه، ولا يلتفت إلى زينة الدنيا الفانية، ولا يهمه المال والثراء، ولا يسمح لأحد بأن يلومه أو يذكره بسوء.

استكشاف المضامين الرئيسية

تتضمن القصيدة مجموعة من الأفكار الرئيسية التي تعكس رؤية الشاعر للحياة والمجتمع. فهو يتحدث عن الشوق إلى الماضي، والتمسك بالأخلاق الحميدة، ومواجهة صعوبات الحياة بعزة نفس وكرامة. كما يعبر عن شعوره بالعزلة والاغتراب في مجتمع تغيرت قيمه ومبادئه. بالإضافة إلى ذلك، يتطرق الشاعر إلى موضوع الحب والهجر، والتعبير عن الألم والمعاناة الناتجة عن البعد والفراق.

تحليل الجوانب الفنية

عند قراءة هذه القصيدة، نجد أن الشاعر قد عبر عن فلسفته في الحياة والتعامل مع الآخرين، والتي تقوم على التمسك بالأخلاق الحميدة، حتى لو أدى ذلك إلى نبذه من قبل الناس. فهو يقول إنه قد اختبر الحياة بكل جوانبها، وعرف خيرها وشرها، ويشبه الحياة بضرعين يُحلبان، أحدهما للخير والآخر للشر، وأنه قد عرفهما جيداً وأصبح يميز بينهما. كما يقول:

بَلَوْتُ دَهْرِي فَمَا أَحْمَدْتُ سِيرَتَهُ:::فِي سَابِقٍ مِنْ لَيَالِيهِ وَلا تَالِي
حَلَبْتُ شَطْرَيْهِ مِنْ يُسْرٍ وَمَعْسَرَةٍ:::وَذُقْتُ طَعْمَيْهِ مِنْ خِصْبٍ وَإِمْحَالِ
فَمَا أَسِفْتُ لِبُؤْسٍ بَعْدَ مَقْدرَةٍ:::وَلا فَرِحْتُ بِوَفْرٍ بَعْدَ إِقْلالِ

ثم يصف نفسه بأنه ذو نفس عفيفة لا تنقاد بسهولة، ويشبه نفسه بجواد جامح لا يكبحه لجام. ولعل تشبيهه لنفسه بالجواد له دلالة أسلوبية تتمثل في أن الخيل الأصيلة لا تروض بسهولة، فنفسه صعبة الإغواء والترويض. إلا أن هذا الأمر جعله وحيداً بلا أصدقاء، فالشاعر يعاني من الغربة الوجودية لقلة الأصحاب وانعدامهم، كما نرى في قوله:

عَفَافَةٌ نَزَّهَتْ نَفْسِي فَمَا عَلِقَتْ:::بِلَوْثَةٍ مِنْ غُبَارِ الذَّمِّ أَذْيَالِي
فَالْيَوْمَ لا رَسَنِي طَوْعُ الْقِيَادِ وَلا:::قَلْبِي إِلَى زَهْرَةِ الدُّنْيَا بِمَيَّالِ
لَمْ يَبْقَ لِي أَرَبٌ فِي الدَّهْرِ أَطْلُبُهُ:::إِلا صَحَابَةُ حُرٍّ صَادِقِ الْخَالِي
وَأَيْنَ أُدْرِكُ مَا أَبْغِيهِ مِنْ وَطَرٍ:::وَالصِّدْقُ فِي الدَّهْرِ أَعْيَا كُلَّ مُحْتَالِ

البنية الإيقاعية

يتضح للمتأمل في هذه القصيدة أن الشاعر يعتمد على النموذج الشعري القديم في بناء قصيدته، حيث نجد أنها تتميز بوحدة الوزن والقافية. وتبدأ القصيدة ببيت مقفى ومصرّع، مما يخلق موسيقى تتناسب مع الموسيقى الخارجية، ويظهر براعة الشاعر في صياغة الشعر وترتيب الألفاظ. تعتمد هذه القصيدة على بحر البسيط، وهو بحر طويل ومتعدد التفعيلات، حيث يتكون كل بيت من ثماني تفعيلات مختلفة، مما يتيح للشاعر الإطالة والاسترسال في الكلام، لأنه قد نال قسطاً من الحرية في مساحة التعبير. فالشعر أحياناً يقيد الشاعر في القدرة على التعبير عن المعاني، وتظهر البراعة في اختيار الألفاظ التي تختزل المعاني المرادة.

المصادر والمراجع

Total
0
Shares
المقال السابق

نظرة في قصيدة: تعمدت قتلي في الهوى لحافظ إبراهيم

المقال التالي

نظرة في قصيدة: عطش الأرواح لإيليا أبو ماضي

مقالات مشابهة