فهرس المحتويات
التفسير الدلالي لقصيدة تموز جيكور
يمكن فهم قصيدة تموز جيكور من خلال دراسة معانيها ودلالاتها المتعددة. القصيدة مليئة بالرموز والاستعارات التي تعكس تجربة الشاعر بدر شاكر السياب ومعاناته. من خلال فحص هذه الرموز، يمكننا فهم أعمق للمعنى الذي أراد السياب إيصاله.
التصوير الفني في قصيدة تموز جيكور
تزخر قصيدة تموز جيكور بالصور الشعرية الغنية التي استخدمها الشاعر العراقي بدر شاكر السياب ببراعة. تتنوع هذه الصور بين التشبيه والاستعارة والرمز، وتظهر بوضوح منذ العنوان، حيث يحول السياب شخصية الإله البابلي تموز، إله الخصوبة، إلى رمز لذاته، محولاً مسار الأسطورة القديمة “تموز عشتار” إلى أسطورته الخاصة مع قريته ومسقط رأسه جيكور.
تتكامل الصور الشعرية مع الجو العام للقصيدة، ففي المقطع الأول، يقول الشاعر:
نَابُ الْخِنْزِيرِ يَشُقُّ يَدِي
وَيَغُوصُ لَظَاهُ إِلَى كَبِدِي
وَدَمِي يَتَدَفَّقُ، يَنْسَابُ
لَمْ يَغْدُ شَقَائِقَ أَوْ قَمْحًا
لَكِنْ مِلْحًا
«عِشْتَارُ» وَتَخْفِقُ أَثْوَابُ
وَتَرِفُّ حِيَالِي أَعْشَابُ
مِنْ نَعْلٍ يَخْفُقُ كَالْبَرْقِ
كَالْبَرْقِ الْخُلَّبِ يَنْسَابُ
لَوْ يُومِضُ فِي عِرْقِي
نُورٌ، فَيُضِيءُ لِيَ الدُّنْيَا!
لَوْ أَنْهَضُ! لَوْ أَحْيَا!
لَوْ أُسْقَى! آهٍ لَوْ أُسْقَى!
لَوْ أَنَّ عُرُوقِي أَعْنَابُ!
وَتُقَبِّلُ ثَغْرِي عِشْتَارُ
فَكَأَنَّ عَلَى فَمِهَا ظُلْمَةً
تَنْثَالُ عَلَيَّ وَتَنْطَبِقُ
فَيَمُوتُ بِعَيْنَيَّ الْأَلْقُ
أَنَا وَالْعَتَمَهْ
في البيت الأول، يستخدم الشاعر الكناية، حيث يرمز الخنزير إلى مرض الشاعر، واليد إلى الوحدة والاجتماع، وكأن هذا المرض قد زعزع استقرار الشاعر الجسدي والنفسي. وهذا ما نلمسه في البيت الثاني، حيث يشبه الشاعر ناب الخنزير (أي مرضه) بالنار التي تغوص في جسده حتى توشك على حرق كبده، والكبد هنا كناية عما لا يمكن الاستغناء عنه.
في الأبيات الثالث والرابع والخامس، يستخدم الشاعر رمز أسطورة عشتار وهي تبحث عن زوجها تموز، ونتيجة لبحثها الطويل، نزفت قدماها دمًا، لينبت من قطرات الدم شقائق النعمان، في حين أن الشاعر لم ينبت من جراحه سوى الملح، الذي هو كناية عن الأرض القاحلة قاصدًا قريته جيكور، وعن تضاعُف ألم جسده.
وفي الأبيات من السادس وحتى التاسع، يتمكن اليأس من الشاعر، فيتصور موته، إذ يشبه الأثواب، والتي هي كناية عن الأكفان، بالشيء الذي يخفق من شدة حيويتها، ويشبه الأعشاب بالأعلام التي ترفرف حوله، وهي استعارة تدل على الأعشاب الملتفة حول قبره، كما يشبه سرعة مسير مشيعي جثمانه بسرعة البرق، هذا البرق المخادع الذي لا يتبعه مطر، وهو حال مشيعيه المخادعين في حزنهم، فلا يتبعه بكاء، كما أكد السياب في الاستعارة التمثيلية: (كالبرق الخُلَّبِ ينساب).
وبعد الاستسلام المفعم بالرموز الدالة على اليأس والموت (الخنزير، ملحا)، يمتلئ الشاعر بالأمل، إذ يجعل النور كناية عن الحياة، ويشبه هذا النور بالضوء الذي يشتعل داخله ويضيء له دنياه، ثم يوظف الشاعر في الأبيات الثلاثة اللاحقة مجموعة من الرموز الدالة على التمسك بالحياة (لو أُسقى، لو أنهض).
لكن هذا التمسك بالحياة سرعان ما يختفي في الأبيات الخمسة الأخيرة، ليعود إلى حالة الموت مع توظيف رموز للدلالة عليها (ظلمة، عتمة)، كما يعود إلى أسطورة تموز عشتار ليؤكد أن عشتار التي منحت تموز الحياة، ستمنحه هو الموت، وهنا يشبه فم عشتار بالشيء الممتلئ بالظلام، ويشبه هذا الظلام بالشيء الذي يهجم عليه ويحاصره حتى يموت الألق داخله، والألق كناية عن الحياة وقد شبهه بالكائن الذي يموت، ليبقى السياب وحيدًا مع الموت الذي رمز له بالعتمة.
ومجددًا يمتلىء الشاعر بالأمل في المقطع الثاني، فيقول:
جَيْكُورُ سَتُولَدُ جَيْكُورُ
النُّورُ سَيُورِقُ وَالنُّورُ
جَيْكُورُ سَتُولَدُ مِن جُرْحِي
مِنْ غَصَّةِ مَوْتِي، مِنْ نَارِي
سَيَفِيضُ
الْبَيْدَرُ
بِالْقَمْحِ
وَالْجُرْنُ سَيَضْحَكُ لِلصُّبْحِ
وَالْقَرْيَةُ دَارًا عَنْ دَارِ
تَتَمَاوَجُ أَنْغَامًا حُلْوَهْ
وَالشَّيْخُ يَنَامُ عَلَى الرَّبْوَهْ
وَالنَّخْلُ يُوَسْوِسُ أَسْرَارِي
جَيْكُورُ سَتُولَدُ لَكِنِّي
لَنْ أَخْرُجَ فِيهَا مِنْ سِجْنِي
فِي لَيْلِ الطِّينِ الْمَمْدُودِ
لَنْ يَنْبِضَ قَلْبِي كَاللَّحْنِ
فِي الْأَوْتَارِ
لَنْ يَخْفُقَ فِيهِ سِوَى الدُّودِ
يؤكد الشاعر في أول بيتين، ومن خلال استعمال رمزي الولادة والنور الدالَّين على الحياة، على انبعاث قريته مجددًا كما حصل مع الإله تموز، موظفًا أسلوب الاستعارة حينما شبه جيكور بالمرأة التي تلد وشبه النور بالنبات الذي تخرج أوراقه وتنمو.
وفي البيتين اللاحقين الثالث والرابع، يقول الشاعر على لسان أسطورة تموز عشتار: كما أن تموز عاد إلى الحياة من العالم السفلي، ستعود جيكور إلى الحياة مجددًا ولكن من دمائي وجسدي.
أما الأبيات من الخامس إلى العاشر، فتزخر بالاستعارات: إذ شبه الشاعر البيدر بالشيء الذي يفيض بالقمح، وشبه الجرن بالإنسان الذي يضحك، وشبه القرية الممتلئة بالحياة بالأمواج والأنغام، كما شبه النخل بالبشر الذين يهمسون، وإضافة إلى ذلك وظف الشاعر الكناية في حديثه عن الشيخ النائم كناية عن السلام والأمان.
تظل الولادة مرافقةً لجيكور في الأبيات الستة الأخيرة، أما ذات الشاعر فتعود إلى اليأس، فالسجن الذي يحبس الشاعر هو كناية عن مرضه، وليل الطين الممدود ليس إلا كناية عن جسد الشاعر وسهره متألمًا، وأخيرًا جاءت الاستعارة: (لن ينبض قلبي) والاستعارة الأخرى (لن يخفق فيه) للتأكيد على خلو الشاعر جسديًا ونفسيًا من الحياة، فالدود والذي هو كناية عن الموت، هو وحده من سيخفق داخل قلب الشاعر.
وتنتهي القصيدة كما بدأت محملة بمشاعر اليأس والموت:
هَيْهَاتَ أَتُولَدُ جَيْكُورُ
إِلَّا مِنْ خَضَّةِ مِيلَادِي؟
هَيْهَاتَ أَيَنْبَثِقُ النُّورُ
وَدِمَائِي تُظْلِمُ فِي الْوَادِي؟
أَيُسَقْسِقُ فِيهَا عُصْفُورُ
وَلِسَانِي كُومَةُ أَعْوَادِ؟
وَالْحَقْلُ؟ مَتَى يَلِدُ الْقَمْحَا
وَالْوَرْدَ، وَجُرْحِي مَفْغُورُ
وَعِظَامِي نَاضِحَةٌ مِلْحًا؟
لَا شَيْءَ سِوَى الْعَدَمِ الْعَدَمِ
وَالْمَوْتُ هُوَ الْمَوْتُ الْبَاقِي
يَا لَيْلُ أَظِلَّ مَسِيلَ دَمِي
وَلْتَغْدُ تُرَابًا أَعْرَاقِي!
هَيْهَاتَ، أَتُولَدُ جَيْكُورُ
مِنْ حِقْدِ الْخِنْزِيرِ الْمُتَدَثِّرِ بِاللَّيْلِ
وَالْقُبْلَةُ بُرْعُمَةُ الْقَتْلِ
وَالْغَيْمَةُ رَمْلٌ مَنْثُورُ
يَا جَيْكُورُ؟
يستبعد الشاعر في الأبيات الأربعة الأولى، إمكانية ولادة جيكور، فكما أن تموز لم يكن له أن يعود إلى الحياة لولا عشتار، لا يمكن لجيكور أن تعود إلا من خلال الشاعر، وطالما أن المرض يتربص للشاعر بالموت، فلا ولادة ستكون لجيكور، وهو ما دلت عليه الاستعارة في قول الشاعر: ودمائي تظلم في الوادي، والوادي هنا كناية عن جيكور، أي أن موت الشاعر مرتبط حتمًا بموت جيكور أيضا.
يؤكد الشاعر في المقطع التالي من البيت الخامس إلى التاسع، على المصير المشترك له ولجيكور، متسائلًا عن كيفية عودة مظاهر الحياة إلى جيكور( زقزقة العصافير، وولادة القمح والورد) طالما أن جسده يعج بمظاهر الموت، فلسان الشاعر أصبح كومة أعواد كناية عن جفافه، وجراحه متسعة كناية عن استحالة شفائها، وعظامه تنضح بالملح كناية عن تجذر المرض داخله.
يتسع يأس الشاعر في البيتين العاشر والحادي عشر، حتى يشمل الكون كله، الكون الغارق بالعدم، وفي البيتين اللاحقين يناشد الشاعر الليل الذي هو كناية عن الموت كي يظل مسيل دمه مما يعني انتهاء تدفقه، كما يتمنى موته حين يتمنى أن تصبح عروق جسده ترابا.
ويعود الشاعر في الأبيات الأخيرة إلى التساؤل مجددًا، نافيًا أي احتمالية لولادة جيكور بسبب المرض المستفحل في جسده والذي يشتد عليه في الليل، مستحضرًا مجددًا الأسطورة و يستخدم مجددًا الخنزير كناية عن مرضه، كما يرجع إلى قبلة عشتار التي تصبح برعمة القتل كناية عن إنباتها الموت داخل الشاعر، كما تصبح الغيمة وهي كناية عن الحياة القادمة والأمل محض رمل منثور.
توظيف الأسطورة في قصيدة تموز جيكور
استعان السياب بأسطورة تموز وعشتار للتعبير عن تجربته الشخصية. تموز، إله الخصوبة والحياة عند البابليين، يُقتل على يد خنزير بري، مما يؤدي إلى موت الطبيعة ونزوله إلى العالم السفلي. عشتار، إلهة الخصوبة وحبيبته، تبحث عنه، وتنزف قدماها، لتنبت شقائق النعمان مكان قطرات الدم. تهبط عشتار إلى العالم السفلي وتقبل حبيبها، ليعود العاشقان وتبدأ فترة الربيع.
في القصيدة، يتقمص الشاعر شخصية تموز، ويمثل مرضه شخصية الخنزير. إلا أن معاناة السياب تتجاوز معاناة تموز، فقبلة الحياة التي وهبتها عشتار لتموز تتحول إلى قبلة الموت، ودماؤه لا تتحول إلى شقائق حمراء، بل إلى ملح يزيد جراحه ألمًا.
على الرغم من تأكيد الشاعر على ولادة وانبعاث جيكور من جرحه، فإنه يعود إلى فكرة الولادة المتعسرة، محرفًا مسار الأسطورة ليعكس معاناته من خلال مقارنة بين حالتين: تموز عشتار، الذي كانت له الحياة، وتموز جيكور، الذي فقد الأمل فيها. جيكور، بعد ارتباطها بالأسطورة، تتحول من بعدها الجغرافي إلى أبعاد متعددة.
التحليل الإيقاعي لقصيدة تموز جيكور
يهدف هذا الجزء إلى استكشاف الجوانب الصوتية والإيقاعية التي تشكل جزءًا هامًا من جمالية القصيدة.
الإيقاع الداخلي في القصيدة
ظهر الإيقاع الداخلي للقصيدة من خلال تكرار حروف القافية وحروف المد، بالإضافة إلى تكرار بعض الكلمات مثل (الحياة، الموت، جيكور، النور، هيهات، الولادة). كما تكررت بعض العبارات مثل (جيكور ستولد جيكور، النور سيورق النور). هذا التكرار أوجد توازنًا موسيقيًا وإيقاعًا صوتيًا كشف عن أجواء القلق واليأس في نفس الشاعر.
الإيقاع الخارجي في القصيدة
سعى الشاعر لخدمة المضامين الداخلية للقصيدة، والتي تعبر عن شدة اليأس واقتراب الموت، من خلال بناء قصيدته على نظام الشعر الحر أو التفعيلة، الذي يعتمد على كسر البنية التقليدية للقصيدة العربية، وكسر إيقاع البيت، وجعل أسطر القصيدة متفاوتة الطول، وتنظيم القصيدة وفق مقاطع شعرية (ثلاثة مقاطع) مع التبديل في القافية والروي بتبدل المواقف والمشاعر.
أما الوزن، فقد جاءت القصيدة على إيقاع بحر المتدارك، وبتفعيلة محاصرة بالزحافات (فعلن). كما عمد الشاعر إلى تكسير الوقفة العروضية بالاعتماد على خاصية التدوير، وتكسير الوقفة الدلالية التي يتوقف فيها تمام المعنى في سطر معين على السطر الذي يليه، كما في المثال التالي:
لَمْ يَغْدُ شَقَائِقَ أَوْ قَمْحًا
لَكِنْ مِلْحًا
التحليل البنائي لقصيدة تموز جيكور
جاء البناء التركيبي للقصيدة على النحو الآتي:
- استخدم الشاعر ألفاظًا مألوفة ولغة سهلة ولكن بدلالات جديدة.
- تنقل الشاعر في القصيدة بين الجمل الاسمية الدالة على السكون والموت، والجمل الفعلية المضارعة الدالة على الحركية والاستمرارية.
- التوزيع المنتظم للأفعال الذي يتماشى مع دلالات النص، ففي المقطع الأول تطغى الأفعال الساكنة المستلهمة معنى الانهزام أمام الموت (يغوص، يتدفق)، أما المقطع الثاني فيحفل بأفعال الزمن المضارع الدالة على الحركة والاستمرارية (ستولد، سيورق)، أما المقطع الأخير تأخذ الأفعال المستعملة مجرى السؤال والحيرة (أتولد، أينبثق).
- التنويع في الضمائر داخل القصيدة بين: ضمير المتكلم المفرد وهو خاص بالشاعر (يدي، ناري، قلبي)، وضمير الغائب المفردة الخاص بعشتار وجيكور (فمها، تنثال، تقبل).
- هيمنة الأسلوب الإنشائي على القصيدة، ومن الأساليب الدالة عليه الاستفهام والنداء، وتكشف الجمل الإنشائية عن أحاسيس الشاعر التي يغلب عليها القلق والتوتر والتشكيك.
- استعمال عناصر الطبيعة وكانت صور الريف حاضرة في القصيدة.
- وجود مجموعة من الثنائيات الضدية، مثل: الموت والحياة، الظلمة والضياء، الخصب والجفاف، والرابط الذي يجمع بين هذه الثنائيات هو دلالة الانهزام عند ذات الشاعر، وفي معجم القصيدة نلاحظ وجود كلمات مثل: أحيا، أعشاب، أسقى، مقابل الكلمات الدالة على الأرض الجرداء: ملح، كومة، أعواد، رمل، ولا شك أنّ التناقض هو ما ينسج ما بين الحقلين ما دام المرض هو المانع الذي يرفض جمعهما معًا، فيلقي بالشاعر إلى الهلاك وجيكور إلى الخراب.
التحليل الصرفي لقصيدة تموز جيكور
احتوت قصيدة تموز جيكور على عدد من المشتقات الصرفية، ظهرت في القصيدة على النحو التالي:
- اسم فاعل لجذر ثلاثي: ناضحة
- اسم فاعل لجذر غير ثلاثي: المُتدثِّر
- اسم مفعول لجذر ثلاثي: ممدود، مفغور، منثور
- صيغة مبالغة: مَسيل (على وزن فَعيل)
المراجع
- حيدر توفيق بيضون، بدر شاكر السياب رائد الشعر العربي الحديث، صفحة 85 – 89. بتصرّف.
- بدر شاكر السياب، ديوان بدر شاكر السياب المجلد الثاني، صفحة 72 – 74.
- دلال حسين عنبتاوي، بدر شاكر السياب قراءة أخرى، صفحة 73 – 77. بتصرّف.
- “تحليل نــص ” تموز جيكور” – بدر شاكر السياب (تكسير البنية)”، مدونتنا. بتصرّف.