دراسة في صلب نظرية الانتظام

مقدمة

تعتبر نظرية الانتظام من أبرز النظريات اللغوية والبلاغية التي قدمها لنا الفكر العربي، والتي أسس دعائمها الإمام عبد القاهر الجرجاني. وتقوم هذه النظرية على فهم عميق لتركيب الكلام وأثره في إبراز المعاني. فجوهر هذه النظرية يكمن في الاهتمام بالتركيب اللغوي والتناسق بين الكلمات من أجل تحقيق أقصى درجات التأثير والإقناع. إنّ جوهر هذه النظرية يتعلق بعلم النحو، هذا العلم الذي يهتم بدراسة الألفاظ والتراكيب اللغوية، فالانتظام في الكلام يتم بتحري معاني النحو بما يتوافق مع المقاصد والغايات التي يسعى المتحدث لتحقيقها.

بمعنى آخر، فإنّ معاني النحو هي الأساس الذي تقوم عليه الفكرة المراد توصيلها. ولا يقتصر الانتظام على مجرد ترتيب الألفاظ بشكل متتابع، فلو كان الأمر كذلك، لتساوى الناس جميعًا في القدرة على إنتاج كلام بليغ ومؤثر. إنما الانتظام الحقيقي يكمن في التناسق بين دلالات الألفاظ وتوافق معانيها بما يقتضيه العقل والمنطق. ولذا، فإنّ نظرية الانتظام تركز بشكل أساسي على المعاني وليس على الألفاظ ذاتها، فالألفاظ ما هي إلا وسيلة للتعبير عن المعاني ونقلها إلى المتلقي.

دلائل الإعجاز وصلة النظرية

يُعتبر كتاب “دلائل الإعجاز” من أهم وأشهر مؤلفات الإمام الجرجاني، والذي كان له دور كبير في الوصول إلى نظريته الشهيرة، والتي تعرف أيضًا بنظرية التعليق أو نظرية الانتظام. لقد سبق الجرجاني علماء عصره في هذا المجال، وما زالت هذه النظرية تثير إعجاب الباحثين والدارسين في العصر الحديث، وتصمد بقوة أمام النظريات اللغوية الغربية الحديثة.

كان هدف الجرجاني من خلال كتابه “دلائل الإعجاز” هو الرد على من يزعمون أن إعجاز القرآن الكريم يكمن في الألفاظ وحدها. لقد رفض الجرجاني فكرة أن يكون الإعجاز بسبب المفردات والمعاني أو بسبب سهولة جريانها على الألسن، كما رفض إرجاع الإعجاز إلى الاستعارات أو المجازات أو الفواصل أو حتى الإيجاز. بل رأى أن السبب الحقيقي لإعجاز القرآن الكريم هو حسن الانتظام وجمال التركيب اللغوي.

تجدر الإشارة إلى أن نظرية الانتظام لا تهتم بمعاني الكلمات المفردة إلا إذا كانت جزءًا من سياق تركيبي محدد. فالدلالة المعجمية للكلمات معروفة لدى معظم أهل اللغة، ولكن المستخدم الماهر للغة يسعى إلى استكشاف الدلالة التي تكتسبها الكلمة من خلال انتظامها في سياق معين. ذلك لأن اختلاف دلالة اللفظ يتبع التركيب النحوي الذي تنتظم به، وكذلك المواضع المختلفة للفظة في السياقات الناتجة عن أصل سياقي واحد.

الأسس الجوهرية لنظرية الانتظام

تستند نظرية الانتظام إلى مجموعة من الأسس الجوهرية التي تشكل بنيتها الأساسية. ويمكن تلخيص هذه الأسس في النقاط التالية:

• التقديم والتأخير: يلعب التقديم والتأخير دورًا مهمًا في توجيه المعنى وإبرازه، حيث يمكن للمتحدث أن يقدم أو يؤخر بعض الكلمات أو العبارات لتحقيق غرض بلاغي معين.
• الحذف: يعتبر الحذف أسلوبًا بلاغيًا فعالًا يمكن استخدامه للاختصار أو للإشارة إلى معنى ضمني يفهمه المتلقي.
• الفروق: يمثل إدراك الفروق الدقيقة بين المعاني المختلفة للكلمات والعبارات عنصرًا أساسيًا في فهم النص وتفسيره بشكل صحيح.
• الفصل والوصل: إنّ استخدام الفصل والوصل بين الجمل والعبارات يساعد على تنظيم الأفكار وتوضيح العلاقات بينها.

لمحة عن عبد القاهر الجرجاني

هو عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، ويكنى بأبي بكر، وهو إمام من أئمة اللغة العربية، وواضع أسس علم البلاغة. ولد في منطقة جرجان، الواقعة بين خراسان وطبرستان. كان يتميز بشعره الرقيق، وله مؤلفات عديدة في اللغة والبلاغة، منها: “أسرار البلاغة”، و”دلائل الإعجاز”، و”الجمل في النحو”، و”التتمة”، و”إعجاز القرآن”، و”العمدة”، و”العوامل المئة”، وغيرها.

المصادر

• د. محمد بن سعد الدبل (21-4-2013)،”فكرة النظم عند عبدالقاهر وغيره من العلماء”، www.alukah.net، تم الاطلاع عليه بتاريخ 25-9-2018. بتصرّف.
• د. عماد محمود علي أبو رحمة (20-12-2011)،””نظرية النظم” عند الجرجاني وعلاقتها بمفهوم البنية في النقد الحديث “، www.alukah.net، تم الاطلاع عليه بتاريخ 25-9-2018. بتصرّف.
• “الجرجاني، عبد القاهر”، www.shamela.ws، تم الاطلاع عليه بتاريخ 25-9-2018. بتصرّف.
• د. بيان شاكر جمعه و د. مهند حمد شبيب (2009 )،قراءة في نظرية النظم، الرمادي : مجلة جامعة الأنبار للعلوم الإسلامية، صفحة 255 ، جزء الجزء الأول . بتصرّف.
• خير الدين الزركلي (2002)،معجم الأعلام(الطبعة الطبعة الخامسة عشرة)، بيروت: دار العلم للملايين، صفحة 48-49 ، جزء الجزء الرابع. بتصرّف.