المقدمة: قلب صافٍ كالماء |
العرض: مسيرة الواثق |
الخاتمة: جوهر ثابت يرسخ المودة |
المقدمة: قلب صافٍ كالماء
في حي جديد استقررنا، وهناك تعرفت على رجل تجاوز الخمسين من عمره يُدعى ريمون. كان وجهه يحمل براءة الأطفال، وصفاء قلبه كنقاء الماء. كلما مررت ببيته، كان يبتسم لي بود. ورغم تحذيرات والدتي من التحدث مع الغرباء، كنت أتجاهل ابتسامته وأسرع في طريقي. لكن في العودة، كنت أختلس النظر إليه، فملامحه كانت تأسرني.
العرض: مسيرة الواثق
لم أكن أعرف عن ريمون شيئًا سوى أنه يسكن في ذلك البيت الكبير وحيدًا. كنت أتساءل كيف يعيش، من يطعمه، من يغسل له ملابسه. ذات يوم، رأيته ينهض من مقعده الخشبي قاصدًا حديقة منزله، وكانت خطواته بطيئة لكن واثقة. ولاحظت ندبة كبيرة على ظهره، فأطلقت عليه لقب “صاحب الخطوة الواثقة”.
ذات مرة، رأيت جمعًا من الرجال حول بيته، يحاولون مساعدته. كان ريمون ممددًا على الأرض يتأوه. طلبوا الإسعاف، وبعد نقله للمستشفى، قررت زيارته في اليوم التالي مع والدي، حاملين معنا بعض الطعام والعصير. عندما وصلنا، استقبلنا بصوت ضعيف. كان المنزل يعج بالغبار، لكن ريمون استقبلنا بابتسامة صافية.
قال ريمون: “أخيرًا زرتني يا عبد الله!” تعجبت، فرد والدي: “لم أكن أعلم أنكما تعرفان بعضكما.” فأجابه ريمون: “هذه أول مرة أتحدث مع ابنك. إنه الولد المهذب الوحيد في الحي الذي لا يستهزئ بي.” ثم حكى لنا ريمون قصته المؤلمة.
في المساء، وصفت لأمي ريمون: مشيته الواثقة، هدوئه الغريب، ابتسامته الساحرة، وقار حديثه. فتعجبت أمي كيف لرجل غير متعلم أن يمتلك كل هذه الصفات. فأخبرها أبي بأنه أستاذ جامعي سابق، وأن الحكم على الناس من مظاهرهم خاطئ.
في اليوم التالي، وجدته محاطًا بصبية يزعجونه. غضب ريمون وتوعدهم. طاردتهم حتى هربوا، فشكرني والدموع في عينيه. ثم أكمل لي قصته: تركته زوجته بسبب مرضه، واستغنت الجامعة عن خدماته بسبب ضعف ذاكرته، وأولاد الحي يضايقونه.
سألته عن إخوته، فأجاب: “يأتون مرة في الشهر لدفع حساب البقالة.” مدحت صبره وشكرته على ثقته. لقد تعلمت منه الكثير. ذات مرة قال لي: “كل ليلة أسامح كل من أذاني، زوجتي ورؤسائي وحتى أولاد الحي.”
قال الله تعالى في سورة الشورى، الآية 43:
وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب
.
الخاتمة: جوهر ثابت يرسخ المودة
تعلمت من ريمون الكثير. جوهره الثابت عمق المودة بيننا. كلماته لن تفارقني. أحمل له ودًا لم أحمله لأحد. حالته ساءت وكثرت الأرزاء عليه. بعد عام، مات ريمون وترك في قلبي فراغًا كبيرًا. كلما مررت ببيته، أتذكر ابتسامته. وداعًا صديقي ريمون!